مجزوءة الفاعلية و الإبداع




مدخل عام للمجزوءة

إذا كان الإنسان كائنا واعيا و راغبا و اجتماعيا بطبعه، فهو أيضا كائن فاعل و صانع و مبدع. و تتجلى فاعليته الإبداعية على مستوى الطبيعة من خلال سعيه الدائم إلى رسم ذاتيته عليها، و العمل على تغييرها والإستفادة من طاقاتها من خلال ما يخترعه من آلات تقنية . كما تتجلى هذه الفعالية من ظلال الشغل الذي يعتبر خاصية إنسانية، وفاعليته تدخل الإنسان و الطبيعة في علاقة منتجة لقيم نافعة.
و تتجلى أيضا في إبداع الإنسان لمختلف أشكال التبادل سواء المادية أو الرمزية.
كما تتجلى هذه الفاعلية أيضا في الإبداعات الفنية التي يسعى الإنسان من خلالها إلى إبداع عوالم رمزية جديدة، كعالم الشعر و المسرح و الرواية و غير ذلك
.
هكذا فالإنسان يسعى من خلال كل هذه الأشكال الإبداعية إلى تجاوز حالات النقص التي تميز وجوده، كما يطمح من خلال ذلك إلى إبراز قدراته و تأكيد ذاته سواء في علاقته بالطبيعة او مع الآخرين
 .

مفهوم التقنية و العلم 

المحور الأول: ماهية التقنية إشكال المحور
- ماهية التقنية ؟
- ما الذي يجعل التقنية خاصية إنسانية ؟
- ما الفرق بين التقنية عند الإنسان و تلك الموجودة عند الحيوانات ؟
تحليل نص شبنغلر: مفهوم التقنية

مؤلف النص
شبنغلر (1880-1936) فيلسوف ألماني اهتم بدراسة الحضارة في إطار فلسفة التاريخ. من كتبه "انحطاط الغرب " و " الإنسان و التقنية ". إشكال النص1-
ما التقنية ؟ و ما الفرق بين التقنية عند الإنسان و التقنية عند الحيوان؟
و بأي معنى يمكن اعتبار التقنية خاصية إنسانية ؟ 
: أطروحة النص2-
تعتبر التقنية خاصية إنسانية مرتبطة بالوجود الإنساني منذ القدم . و إذا كنا نتحدث عن التقنية عند الحيوان، فهي تظل مجرد خطة حيويّة للدفاع عن نفسه، كما أنها محكومة بمحددات غريزية، بينما ترتبط التقنية عند الإنسان بالعقل و الفكر مما يجعلها خطة للحياة؛ أي أنها استراتيجية هادفة و موجهة للسلوك البشري.: مفاهيم النص  3-
:* خطة حيوية / خطة حياة
- الفكر / التأمل - الهدف هو تنظيم الوجود الإنساني - الإنسان- الغريزة- الهدف حيوي مرتبطة بالحفاظ على بقاء الجسم - الحيوان
خلاصة تركيبية:
التقنية عند الحيوان مرتبطة بالغريزة فقط ، فهي مجرد عمليات و سلوكات غريزية يقوم بها الحيوان من أجل المحافظة على و جوده الطبيعي
أما عند الإنسان فالتقنية ترتبط بالفكر والعقل؛ فهي تلك التأملات والمخططات والاستراتيجيات الفكرية التي تقف وراء السلوكيات البشرية وترسم لها غاياتها التقنية / أللآلة

يرى " شبنغلر " أن هدف التقنية ليس هو صنع الأدوات و الآلات في حد ذاتها . كما يرى أنه لاينبغي فهم التقنية من خلال وظيفة الأداة، بل ينبغي اعتبار التقنية خطة حياة؛ أي أنها تلك الأهداف و المخططات والاستراتيجيات التي تقف و راء صنع الآلات. وهذا يعني أن التقنية هي فكر و سلوك هادف و ليست مجرد موضوعات أو آلات خارجية
 : حجاج النص -4
للدفاع عن أطروحته القائلة بأن التقنية هي خطة حياة، استخدم صاحب النص مجموعة من الأساليب الحاجيات ارتكزت على الدحض و الإثبات و المقارنة أسلوب الدحض::* المؤشرات اللغوية الدالة عليه
- علينا ألا ننطلق من .... ولا من المفهوم الخاطئ
 .
- بل هي
 ...
- يظهر لنا الخطأ الثاني
 ....
- لا نفهم التقنية من خلال
...
- إن مايهم ليس هو ... ولا
 ... .
- فما يهم ليس
 ...
- ولا انطلاقا من
...مضمونه:
دحض صاحب النص تصورين اعتبرهما خاطئين للتقنية؛ الأول يعتبر أن هدف التقنية هو صنع الأدوات والآلات، والثاني يفهم التقنية من خلال الوظائف التي تقوم بها الآلات و كيفية استخدامهاب – أسلوب الإثبات:
* المؤشرات اللغوية الدالة عليه :
- إن التقنية ترجع في الواقع إلى
 ...
- وإذا أردنا أن ... فعلينا الانطلاق من
...
- إنها
 ...
- إن التقنية هي
 ...
- إن كل آلة
 ....
- كل و سائل نقلنا و لدت انطلاقا من
 ...مضمونه:
- التقنية تعود إلى أزمان غابرة .
- دلالة التقنية مرتبطة بالروح أو النفس، وهي ما يجعلها بالمعنى الدقيقة خاصية إنسانية
.
- التقنية في مستواها الإنساني هي خطة حياة؛ أي أنها تلك المخططات الفكرية و التأملات التي تسبق صنع الآلات
.
- التقنية ليست أدوات و موضوعات، بل هي أفكار تحدد أهدافا مرسومة سلفا لتلك الأدوات و الموضوعات
.
- كل آلة هي نتاج لسيرورة من التأملات التي تسبق و جودها و تحدد أهدافها مسبقاٌ
ج - أسلوب المقارنة:
* المقارنة بين نمط حياة الحيوان و نمط حياة النبات: و الغرض من ذلك هو إثبات أن التقنية تميز حياة الحيوان دون النبات؛ لأن الأول يفعل في الطبيعة و يمتلك استقلالا إزاءها، و هنا تظهر فاعلية الحيوان، بينما لا يتمتع النبات بهذه الخاصية.
* المقارنة بين الإنسان و الحيوان : والغرض منها هو تمييز التقنية عند الإنسان عنها عند الحيوان؛ فهي عند الحيوان مجرد خطة حيوية، أي سلوكات غريزية هدفها الحفاظ على بقاء النوع . أما عند الإنسان فتعتبر التقنية خطة للحياة، أي أنها مرتبطة بالفكر و قائمة على التأمل ورسم أهداف للسلوك البشري
 
تحليل نص مارتن هيدغر: ما التقنية ؟
إشكال النص1-
أين تكمن ماهية التقنية ؟أطروحة النص 2-
لا تتحدد ماهية التقنية حسب هيدغر في اعتبارها أدوات و آلات ناتجة عن العلم، وعن سيطرة الإنسان باعتباره سيدا على الطبيعة، بل إن ماهية التقنية تكمن في اعتبارها نمط و جود إنساني لم يعد الإنسان يتحكم فيه، بل أصبح خاضعا للفكر التقني الذي يسعى إلى الكشف عن أسرار الطبيعة و استخراج مواردهامفاهيم النص 3-
* التقنية / العلم: العلم لا يؤسس التقنية، بل على العكس من ذلك إن جذوره توجد في جوهر التقنية
* التقنية / الإنسان: لم يعد الإنسان حسب هيدغر كائنا حرا صانعا للأدوات و متحكما فيها و يسخرها لتحقيق غاياته. بل إن هذا البعد الغائي يختفي في التقنية في صورتها المعاصرة، ليحل محله البعد الآلي الذي أصبحت معه للتقنية منطقها الخاص الذي ينفلت من سيطرة الإنسان
* التقنية / الحدوث/ الكون
الحدوث هو كشف و مساءلة للطبيعة من أجل استخراج طاقاتها و مكنوناتها اعتمادا على نوع من القسر و التحريض و الاستثارة
حجاج النص 4-
اعتمد هيدغر في عرض أطروحته على أسلوبي الإثبات والنفيأ- أسلوب الإثبات
* المؤشرات اللغوية الداة عليه
- إن تحديدي لماهية التقنية هو
...
- إنني أرى أن... وأن أمرا... وأن هذه العلاقة
...
- أرى في ماهية التقنية
...ب- أسلوب النفي:
* المؤشرات اللغوية الدالة عليه:
- وليس العكس
...
- لا مجال للحديث عن
...
- لا يمكن أن يتم ذلك
...
* مضمون الأسلوبين
:
- التقنية هي التي تؤسس العلم وليس العكس
.
- الإنسان لا يتحكم في التقنية بل إنها تتجاوزه
.
- التقنية هي كشف لأسرار الطبيعة وطاقاتها
.
- لا يدين هيدغر التقنية ولا يرفضها، بل يريد فقط أن يعرف ماهيتها وحقيقتها
- ينفي هيدغر أن يتم فهم ماهية التقنية في إطار علاقة الذات بالموضوع؛ والذات هنا هي الإنسان، والموضوع هو التقنية. ومعنى النفي هنا هو أن التقنية لا تتحدد من خلال سيطرة الإنسان على الآلات التقنية وتسخيرها لغايات يرسمها بشكل حر، بل إن التقنية انفلتت من مراقبة الإنسان، وأصبح لها مسارها ومنطقها الخاص الذي يتجلى في الكشف عن الطاقات الموجودة في الطبيعة بشكل تراكمي ولامحدود
.

خلاصة عامة للمحور 
يتعلق هذا المحور بإشكال رئيسي هو تحديد ماهية التقنية: فما هي التقنية ؟ و بأي معنى يمكن اعتبارها خاصية إنسانية ؟
في إطار الإجابة عن هذا الإشكال تعرفنا على أطروحتين متكاملتين : الأولى لشبنغلر و فيها يعتبر أن التقنية قديمة، و أنها تميز نمط حياة الحيوان عن نمط حياة النبات، إذ أن الأول يمارس فاعليته على الطبيعة في حين أن الثاني يستسلم لقوانينها. غير أن شبنغلر يميز بين التقنية عند الإنسان و اعتبارها خطة للحياة و ممارسة فكرية هادفة، بينما تظل التقنية عند الحيوان مجرد خطة حيوية؛ أي نظام للسلوك مرتبط بمحددات غريزية

أما الثانية فهي لهيدغرالذي يلتقي مع شبنغلر في التأكيد على أن التقنية ليست مجرد أدوات أو آلات، بل هي ذلك الفكر الذي يرتبط بالعلم و الذي أصبح يسيطر على الحياة الإنسانية، و الذي يتميز بسيرورة خاصة به هدفها الرئيسي هو استفزاز الطبيعة و تحريضها و إرغامها على البوح بأسرارها و طاقتها الخفية

المحور الثاني: التقنية والعلم
إشكال المحور
كيف تتحدد العلاقة بين العلم و التقنية ؟ و ما هي النتائج المترتبة عن هذه العلاقة على الحياة الإنسانية والطبيعية ؟
تحليل نص إدغار موران : التقنية-العلم كسيرورة
إشكال النص1-
ماهي علاقة التقنية بالعلم ؟
و ما علاقتهما بالمجتمع ؟

أطروحة النص  -2 

يبين إدغار موران أن التقنية و العلم و المجتمع يشكلون سيرورة دائرية، و أن بينهما علاقات متبادلة ومتداخلة. فالتجريب العلمي يؤدي إلى ابتكار آلات تقنية؛ و هذه الأخيرة تساهم بدورها في إجراء التجارب العلمية و تطويرها، و يرتبط كل هذا بالمصالح الإقتصادية و السياسية للمجتمع الذي يتدخل في سيرورة العلم – التقنيةمفاهيم النص3-
* العلم / التقنية : أية علاقة ؟
هناك علاقة تفاعل وتدا خل قويين بين العلم و التقنية، إذ يساهم كل منهما في إغناء الآخر و تطويره

* العلم – التقنية و المجتمع : أية علاقة ؟
إن سيرورة العلم – التقنية سيرورة دائرية ترتبط بالأهداف الإقتصادية و السياسية للمجتمع
 حجاج النص4-
اعتمد صاحب النص في عرضه لأفكاره على التحليل و التفسير و إعطاء الأمثلة
- التحليل انصب على إبراز العلاقة الموجودة سواء بين التقنية و العلم أو بين التقنية و المجتمع

- تقديم مثال يتعلق بملاحظة الجزيئات و التلسكوبات

- الاعتماد على رسم خطاطة توضح السيرورة التفاعلية الدائرية بين العلم و التقنية و المجتمع و الدولة
 
تحليل نص جلبيرهوتوا
إشكال النص1-
ماهي المبادىء التي ترتكز عليها استقلالية التقنية ؟ وما هي انعكاسات ذلك على مستوى ثقافة الإنسان وحضارته ؟ أطروحة النص 2-
إن للتقنية منطقها الخاص بها، والذي ينمو بشكل آلي وذاتي دون أن يخضع لأية غاية خارجية. وهذا ما أفقد الإنسان السيطرة على مسار التقنية، وجعل لها انعكاسات سلبية على الثقافة التقليدية والرمزية بحيث أدى إلى إخضاعها أو إعدامهاأفكار النص3-
- يبرز لنا صاحب النص أن للتطور التقني منطقه الذاتي، الداخلي و الآلي، والذي لا يخضع لأية غاية خارجية. و هذا خلافا لموقف إدغار موران الذي ربط بين التطور التقني و الأهداف السياسية والإقتصادية للمجتمع
و يؤكد جلبير هوتوا على خضوع الإنسان للتقنية " بحيث أضحى البشر مجرد منفذين لهذا الأمر التقني الضروري
 "
- لا يمكن في نظر هوتوا اعتبارالتقنية مجرد و سائل و آلات في خدمة الإنسان، بل أصبح الإنسان خاضعا للتقنية التي تتطور و فقا لنظام داخلي خاص بها

- إن للتقنية و للقوانين العلمية طابع كوني، كلياني و أحادي البعد، و لذلك فهو كثيرا ما يمارس علاقة إخضاع و سيطرة و إعدام لثقافة المجتمعات .هكذا فالعلم و التقنية لا يشكلان حسب هوتوا ثقافة أصيلة

- يعتبر صاحب النص أن التقنية لا تشكل ثقافة أصيلة لأنها عابرة و غير متجذرة في ثقافة و تاريخ المجتمعات.كما أنها أحادية البعد فهي تسيطر على الإنسان و لا تتيح له إمكانية الإبداع و الاختيار بين عدة ممكنات

- هكذا فالثقافة الحقيقية حسب هوتوا هي الثقافة الرمزية و التقليدية المتجذرة في التاريخ، و الموجودة في جماعات مختلفة. أما التقنية فهي في نظره ضد الإنسانية نظرا لما تمارسه من تدمير و إخضاع و سيطرة على الثقافات المحلية

تحليل نص موسكوفيتشي: عمل المهندس
إشكال النص 1-
كيف تتحدد علاقة العلم (الهندسة والحساب) بالعمل التقني؟أطروحة النص2-
أكد موسكوفتشي على العلاقة القوية بين العلم والتقنية، وذلك من خلال توضيحه كيف أن العمل التقني للمهندس يتطلب إلماما بالعلم الرياضيمفاهيم النص 3-
* المهندس/الحرفي أوالصانع
إن عمل المهندس يرتكز على مبادىء علمية نظرية، بينما يرتكز عمل الحرفي أوالصانع على مجرد الخبرة أو الممارسة العملية
* الرياضيات/التقنية: تسمح لنا المفاهيم الرياضية بمعرفة أوزان وأحجام وأشكال الآلات، كما تلعب دورا مهما في الرسم والتصميم والدراسة المتعلقة بالتطبيق التقني.
 4- حجاج النص:
 استخدم صاحب النص مجموعة من الآليات الحجاجية لتدعيم أطروحته:
 أ- آلية العرض والإثبات
* المؤشرات اللغوية الدالة عليها
- لم يعد بمقدورنا... إذا لم
...
- ...بل يتعلق الأمر
...
- لقد أصبح من الضروري
...
-... يظهر أن تملك مفاهيم الرياضيات هو الذي
...
- لقد أصبحت وظيفة الرياضيات معترفا بها
...
- وهكذا نجد الرياضيات
...
- عندما يتعلق الأمر... يكون من الضروري
...
* مضمونها
:
- لحل الكثير من المشاكل التي واجهت الحرفيين والصناع، يكون من الضروري على المهندس أن يكون قادرا على استخدام الآلات والتقنيات الميكانيكية
.
- التأكيد على الارتباط القوي بين العلم (الهندسة والرياضيات) والتقنية 
(الرسومات والخطاطات والبناءات)، ذلك أن الرياضايات تمكن من تكميم الوقائع الحسية مما يجعل إنجازها أكثر صحة ودقة.
- للرفع من أداء الآلات، لا بد من معرفة أوزانها وأحجامها وأشكالها. وهذا يبين العلاقة الوطيدة التي تربط التقنية بالرياضيات؛ إذ أن المعرفة بمفاهيم وقواعد هذه الأخيرة أصبح سمة مميزة للممارسين للتقنية الجديدة
.
- الاعتراف بوظيفة الرياضيات في تقدم التقنية المعاصرة. فقد أضحت الرياضيات تخترق مهارة المهندس وتشكل عنصرا مكونا لمعرفته بمختلف التقنيات التي تتطلبها ممارسته على أرض الواقع
.
- تمكن الرياضيات من إجراء التجارب والفحوص القبلية الضرورية لبناء منشىء أو إصلاحه، أو لحل بعض المشاكل التقنية
 ب- أسلوب الاستشهاد
لتأكيد دور الرياضيات والهندسة في العمل التقني ، استشهد موسكوفيتشي بأعمال ليوناردو دافينشي في هذا الإطار؛ حيث لجأ هذا الأخير إلى الهندسة لتصميم العجلة المسننة والتروس المخروطة واللولبية... كما لجأ إلى الرياضيات في أبحاثه في الطاقة الهوائية. كما تمكن انطلاقا من قياس أجنحة الوطواط ، من قياس كم الهواء القادر على حمل وزن محدد
← هكذا بين موسكوفيتشي انطلاقا من هذه الآليات الحجاجية، أن الممارسة التقنية لعمل المهندس تتطلب إلماما بالعلم الرياضي. من هنا يمكن اعتبار العلم مؤسسا للعمل التقني

المحورالثالث: نتائج تطور التقنية إشكال المحور
ما نتائج تطور التقنية على وجود الإنسان ؟
ولمذا تحولت إلى قوة مسيطرة على مصيره ؟

تحليل نص ديكارت: السيطرة على الطبيعة
إشكال النص - 1
ما هي نتائج علم الطبيعة على الوجودين الطبيعي و الإنساني ؟ و كيف يجعلنا العلم سادة و مالكين للطبيعة؟ أطروحة النص 2-
- إن موقف ديكارت من الفلسفة التأملية النظرية هو موقف تجاوز و قطيعة و رفض، لأنها في نظره فلسفة عقيمة وجوفاء، و لا تنتج عنها أية منافع ملموسة على المستوى العملي
- لقد كان لازما على ديكارت الإفصاح عن مبادئ العلم الطبيعي، لأنه اختبر نجاعتها على مستوى حل العديد من المعضلات، و تبين له أنها تؤدي إلى تحقيق منافع كثيرة للناس، و هو ما يجعلها تختلف عن المبادئ التي ترتكز عليها الفلسفة السكولائية التي كانت سائدة في القرون الوسطى

- إن الفلسفة العملية المرتبطة بالعلم الطبيعي تمكننا من فهم و معرفة القوانين التي تتحكم في الظواهر، وهي خطوة أساسية للسيطرة عليها و تحويلها إلى منتوجات صناعية وثقافية يستفيد منها الإنسان

← هكذا تكمن أطروحة ديكارت في القول بأن العلم الطبيعية يمكننا من معرفة القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية، و هو الأمر الذي يجعل الإنسان يحول الطبيعة لخدمته فيصبح مالكا لها و سيدا عليها
 مفاهيم النص3-
* الفلسفة العملية / علم الطبيعة: أية علاقة ؟
علم الطبيعة يضع المبادئ النظرية و القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية، أما الفلسفة العملية فهي التطبيق الواقعي و الترجمة الفعلية لتلك المبادئ، عن طريق تحويل الطبيعة و تسخيرها لخدمة مصالح الإنسان. * معرفة القوانين والسيطرة على الطبيعة: أية علاقة ؟
إن معرفة القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية تؤدي إلى معرفة مكوناتها والعلاقات القائمة بينها، وهو الأمر الذي يسمح باستغلالها واستخدامها لتحقيق أغراض ومصالح الإنسان. هكذا تمكن هذه المعرفة الإنسان من أن يصبح سيدا على الطبيعة ومالكا لها
 حجاج النص 4-
استخدم صاحب النص مجموعة من الآليات الحجاجية من أجل الدفاع عن أطروحتهأ- آلية الدحض:
* المؤشرات اللغوية الدالة عليه
- … و مبلغ اختلافها عن المبادئ التي استخدمت إلى الآن
...
- ... و أنه يمكننا أن نجد بدلا من هذه الفلسفة النظرية … فلسفة عملية
...: مضمونه
يدحض ديكارت الفلسفة التأملية النظرية التي كانت سائدة في القرون السابقة، لأنها فلسفة عقيمة، و غير اختبارية، و غير مفيدة، و لا تؤدي إلى السيطرة على الطبيعة

ب- حجة المنفعة: * المؤشرات اللغوية الدالة عليها
- ... وأنا أبدأ باختبارها في مختلف المعضلات الجزئية...
-... لأن هذه المبادىء أبانت لي أنه يمكننا الوصول إلى معارف عظيمة النفع في الحياة
...
-... اختراع عدد لا نهاية له من الصنائع التي تجعل المرء يتمتع من دون أي جهد بثمرات الأرض... الغرض الرئيسي منه أيضا حفظ الصحة
...مضمونه
دافع ديكارت عن علم الطبيعة، وعن الفلسفة العملية المرتبطة به، لأنهما أثبتا فائدتهما على مستوى الواقع الفعلي، وحققا للإنسان عدة منافع؛ كاختراع التقنيات، والتمتع بخيرات الأرض، وتوفير أسباب الراحة، وحفظ الصحةج- آلية المثال
لتبيان فائدة العلم الطبيعي، اعتمد صاحب النص على إعطاء مجموعة من الأمثلة من الظواهر الطبيعية : النار، الماء، الهواء، الكواكب، السموات ... و الغرض من ذلك هو توضيح أن معرفة مكوناتها و القوانين المتحكمة فيها، يؤدي إلى السيطرة عليها و تسخيرها لخدمة مصالح الإنسان 
تحليل نص مشيل سير : ضرورة التحكم في التحكم
إشكال النص 1-
ماهي نتائج تحكم التقنية و العلم الحديث في الطبيعة على مستوى الوجودين الطبيعي و البشري ؟ و كيف ينبغي التحكم في هذا التحكم ؟أطروحة النص 2-
لقد أدى العلم الحديث إلى التحكم المفرط في الطبيعة، مما أدى إلى ممارسة العنف عليها، و تهديد حياة الإنسان، و تكبيده خسائر فادحة. هكذا يتحتم حسب مشيل سير ضرورة التحكم في هذا التحكم الأول، وذلك عن طريق تقنين و عقلنة سيطرتنا على الطبيعة  
مفاهيم النص 3-
[ التحكم / التملك، العلم و الصناعة ]
 دلالة التحكم و التملك: إن العلم النظري يمكن الإنسان من فهم و معرفة القوانين المتحكم في الظواهر الطبيعية، كما يمكن من ابتكار تقنيات تساعد الإنسان على التحكم في الطبيعة و تسخيرها لخدمة أغراضه و مصالحه
* العلم / الصناعة : أية علاقة ؟
يبرز لنا النص نوعا من التحالف المشترك بين المشروع الصناعي و العلم، و هو التحالف الذي أدى إلى تهديد حياة الطبيعة و الإنسان
 التحكم في التحكم: التحكم الأول هو التحكم الذي نادى به ديكارت مع فجر العصر الحديث، والذي يكون هدفه هو السيطرة على الطبيعة وتملكها إلى أقصى الحدود، وهو ما أدى إلى ممارسة الدمار والعنف عليها وعلى الإنسان. لذلك يدعو ميشيل سير في هذا النص إلى تحكم ثاني، يكون هدفه هو التحكم في التقنية والعلم عن طريق تقنينهما وتوجيههما نحو تحقيق ما هو إيجابي ومفيد بالنسبة للطبيعة والإنسان.
حجاج النص -  4اعتمد ميشيل سير في صياغته لأطروحته القائلة بضرورة إعادة النظر في علاقة الإنسان بالطبيعة، وذلك من خلال إحداث تحكم جديد في التحكم العلمي والتقني الحالي، على مجموعة من الآليات الحجاجية أ- آلية العرض:
 المؤشرات اللغوية الدالة عليه
- هذا هو شعار ديكارت
...
- هذه هي الفلسفة المشتركة
...
 مضمونه: يعرض صاحب النص للشعار الذي رفعه ديكارت في فجر العلم الحديث، والمتمثل في الدعوة إلى بذل أقصى الجهود من أجل استخدام العلم والتقنية للسيطرة على الطبيعة وامتلاك طاقاتها ومواردها
ب- آلية النقد:
 المؤشرات اللغوية الدالة عليه
- إن التحكم الديكارتي يؤسس العنف
...
- إن علاقتنا الأساسية بموضوع العالم أضحت تتلخص في الحرب
...
- إن تحكمنا لم يعد منضبطا ولا مقننا، ويتجاوز هدفه، بل أصبح ضد الإنتاج
.
لقد انقلب التحكم الخالص على نفسه
. -
إن التحكم لا يدوم طويلا... فيتحول إلى عبودية
. -
كما أن الملكية... تنتهي إلى الهدم
. - خلاصة تركيبية للمحور:
لقد أدى التحكم الديكارتي إلى ممارسة العنف على الطبيعة، لأنه تحكم غير مقنن، فهو يلحق أضرارا بالغة على الطبيعة والإنسان مادام أن هدفه هو الإنتاج. إن تحكما كهذا يؤدي إلى نتائج معكوسة، فيجعل الإنسان في موقع الضعف والعبودية إزاء الطبيعة بدل أن يكون في موقع القوة والسيادة، وذلك بسبب تدميره للبيئة الطبيعية التي لا يمكن للإنسان الاستغناء عليها في حياته. ج- آلية المقارنة:
استخدم صاحب النص مقارنتين
:
 الأولى: تمثلت في إقامة نوع من المساواة بين الخسائر التي أدى إليها التحكم التقني للطبيعة والذي بدأ مع ديكارت، وبين الخسائر التي يمكن أن تخلفها حرب عالمية وراءها
.
 الثانية: تمثلت في المقارنة بين العلاقة بين الإنسان والطبيعة في القديم وفي الحديث، وذلك بإقامة نوع من التشابه بين العلاقتين؛ ففي القديم كان الإنسان خاضعا للطبيعة وفي حاجة ماسة إليها لتلبية ضرورياته البيولوجية، أما اليوم فيمكن الحديث عن خضوع من نوع ثاني للإنسان تجاه الطبيعة حيث أصبح ضعيفا أمامها وتهدده وتتملكه، وذلك بسبب إفراطه في التحكم فيها بواسطة العلم والتقنية
.

مجزوءة المعرفة


التجربة و النظرية  

محاور الدرس

التجربة والتجريب
العقلانية العلمية 
معايير علمية النظرية  
المحور الأول: التجربة والتجريب  
ماالاشكال المطروح هنا؟ مالقضية التي يتعين معالجتها ومالسؤال أو الأسئلة التي ينبغي الجواب عليها؟
يحظى العلم (وخصوصا العلوم الدقيقة ) بتقدير خاص، حتى الخطاب الديني يستعير القوة الإثباتية للحقائق العلمية. ولو سألنا أنفسنا عن السبب، لأجبنا دون تردد: لإنه يعتمد على التجربة، يقال إذن عن العلم إنه علم تجريبي
ولكن ما المقصود بالتجربة ؟ هل التجربة حكر على العلم !؟ أليست التجربة هي لقاء الواقعي أي مايقع خارج الذات أو يتمايز عنها ؟وعليه ألا توجد التجربة في صلب علاقتنا بالعالم وبالآخرين؟ وإذا صح هذا التعريف الأخير، فما الذي يميز الممارسة التجريبية في العلم عن نظيراتها في باقي مظاهر النشاط المعرفي الإنساني، كالتجربة الروحية أو الجمالية أو العاطفية؟

التجربة ليست حكرا على العلم، لأنها تقع في أساس كل معرفة إنسانية 
لتجاوز هذا الإحراج، يتعين علينا الوقوف عند خصوصية الممارسة التجريبية العلمية من أجل إبراز أوجه الاستمرارية أو القطيعة بين المعرفة العلمية خاصة بما هي معرفة تجريبية والمعرفة الإنسانية عامة التي يقال عنها أيضا أنه ثمرة للتجربة
يرى بيكون أن العلم التجريبي لايتجاوز العلم التأملي إلا بخروج الفكر من ذاته واتجاهه نحو الواقع لاكتشاف العلاقات بين ظواهره، لكن الفكر الإ نساني كان دائما متجها نحو الواقع منصتا للعالم الخارجي بانبهار حينا وبخشوع أو يأس أو رجاء حينا آخر، أي أن الممارسة التجريبية، من حيث تعلم من الوقائع، سابقة على نشوء العلم نفسه كما يقول روني طوم !
بعبارة أخرى، إذا كان العلم المعاصر منذ غاليليو وبيكون علما تجريبيا، فمالذي يشكل بالضبط خصوصية الممارسة التجريبية العلمية إزاء مختلف التجارب الأخرى كالتجربة الروحية أو الجمالية أو العاطفية؟...

لنبدأ أولا بتحديد دلالات مفهوم التجربة بوجه عام
في النص التالي يحلل فرديناند ألكييه مفهوم التجربة بوصفه اختبارا لوقائع متمايزة عن الذات في مقابل الخيالات والأماني واختلاقات الذهن، وبذلك فالخاصية الأساسية للتجربة-حسب آلكيي – كامنة في خضوع الذات وسلبيتها وهي تتقبل المعطى، وهذه السلبية موجودة في كل معرفة إنسانية، كما أن عنصر الخضوع والتلقي يجعل من كل تجربة معاناة وتحملا. وينتهي آلكيي إلى أن واقعة ما أو إحساسا أو فكرة أو حقيقة لا تكون معطاة من طرف التجربة إلا عندما تكون موضع معاينة خالصة تستبعد كل اصطناع أو تدخل أو بناء من طرف الفكر

نص فيرناند ألكيي : مفهوم التجربة 

التقبل السلبي. تلك هي الخاصية التي توصل إليها الفلاسفة بعد تحليلهم لتجاربنا والتي حددوا بها مفهوم التجربة وميزوها عن الاختراع والابداع والخيالات والأماني. وبالفعل، أليس الحديث عن التجربة حديثا عن اختبار لغرابة حقيقية، وأن ما أفادنا وعلمنا هو بالضبط ماصدمنا وماعاكس طريقنا وأجبرنا على تغيير أوهامنا وأحكاما المسبقة والتخلي عن اليقينيات الوثوقية المكتفية بذاتها التي نتخدها غالبا منطلقا لنا؟ وحتى لو قمنا بتأويل التجربة وفهمها، فإنها تنطوي باستمرار على شيء من الخضوع ، أي خضوع الأنا. ولذلك تقترن التجربة عادة بالفشل؛ وكأن الألم ضروري لكي نغير مواقفنا من الحياة. هناك معارف لاسبيل غير المعاناة لتحصيلها ، إن خاصية المعاناة (التحمل) هو العلامة المميزة للموضوع الواقعي التي تسمح بتمييزه بشكل إيجابي...
والتجريب العلمي نفسه لايستحق نعت تجربة إلا لأنه وفي أكثر لحظاته فعالية إنما يمهد ويعلن عن لحظة السلبية التامة: أي اللحظة التي نكتفي فيها بتقبل واستقبال الواقعة التي تمثل جوابا بالنسبة للنشاط الفكري . صحيح أن الواقعة العلمية واقعة محددة بقوانين وفرضيات وبنسق فكري كامل، بيد أنها مع ذلك لاتكون واقعة إلا إذا انطوت على معطى [قائم بذاته ]غير قابل للإختزال (...)
نستطيع إذن أن نمنح لكلمة "تجربة" معنى دقيقا فنعلن أن أن واقعة ما أو إحساسا أو فكرة أو حقيقة تكون معطاة من طرف التجربة عندما تكون موضع معاينة خالصة تستبعد كل اصطناع أو تدخل أو بناء من طرف الفكر. بيد أن هذا مثل هذا التعريف يفتقر إلى الصفة الواقعية مادام ان مساهمة المعطى الخارجي تمتزج دائما بشيء من الاستجابة الفكرية الفعالة
يشير المفهوم الفلسفي للتجربة إذن إلى "تجربة خالصة" لاتجريب فيها أبدا؛ تدل كلمة "تجربة" على ذلك عنصر السلبية الموجود في كل معرفة إنسانية
Ferdinand Alquié, L'experience, PUF, 1957 pp.3-5
Cité par A.Rousel et G.Durozoi, Philosophie Notions et textes Nathan 1979 p156


2-الممارسة العلمية قائمة على "تجريب" لا مجرد "تجربة"

إذا كانت التجربة في معناها العام خضوعا سلبيا للمعطى الخارجي وموجودة في كل معرفة إنسانية، فهل تنسحب هذه الدلالة على الممارسة التجريبية في حقل المعرفة العلمية؟
لننصت إلى العلماء أنفسهم، إلى عالم الفيزيولوجيا الفرنسي كلود برنارد، أحد آباء المنهج التجريبي ومنظريه، وهو يصف ممارسته التجريبية، حيث يتضح جليا أن التجريب العلمي ليس مجرد خضوع للمعطى بل إخضاع للمعطى، ليس مجرد إنصات، إنه استنطاق
وهنا يتضح التمييز - التي دعا إليها ألبير جاكار - بين التجربة بما هي جماع ملاحظاتنا للظواهر التي تعطانا من قبل الطبيعة على نحو مباشر، وبين التجريب الذي هو ملاحظة لاستجابات معطيات العالم الواقعي ، حينما نخضعها لشروط منظورة وموجهة من طرف فكرنا
نص كلود برنار : الممارسة العلمية تجريب لا مجرد تجربة 

ذات يوم، أحضر لي أحدهم أرانب اقتناها من السوق. وحين وضعتها على منضدة المختبر تبولت، فلاحظت بالصدفة أن بولها صاف وحمضي. واسترعاني ما لاحظته، لأن بول الأرانب يكون، عادة، مكدر اللون وغير حمضي ، باعتبار أنها حيوانات عاشبة، في حين أن بول الحيوانات اللاحمة يكون، كما هو معلوم، صافيا وحامضا. وقد قادتني ملاحظتي للحموضة في بول الأرانب إلى تصور أن هذه الحيوانات قد أخضعت لنظام غذائي يناسب الحيوانات اللاحمة. فافترضت أن من الأرجح أنها لم تذق الطعام منذ فترة طويلة، وأنها تحولت، بفعل الإمساك الطويل عن الأكل ، إلى حيوانات لاحمة تقتات من دمها لكي تعيش. ولم أجد أمرا أيسر من التحقق، بواسطة التجربة من صحة هذه الفكرة المفترضة أو هذه الفرضية. فقدمت ‏طعاما من العشب للأرانب، وبعد بضع ساعات لاحظت أن بولها أخذ يتكدر وأصبح غير حمضي. ثم أخضعت نفس الأرانب للإمساك عن الطعام ، وبعد مرور أربع وعشرين ساعة أو ست ثلاثين ساعة على أقصى تقدير، استحال بول الأرانب، مرة أخرى، إلى الصفاء والحموضة الشديدة، ثم تحول، من جديد، إلى بول مضطرب اللون وغير حمضي، حين قدمت لها عشبا. وكررت هذه التجربة البسيطة ‏مرات عديدة، فكنت أحصل ، دوما، على نفس النتيجة. وكررت هذه التجربة على الخيول، وهي كذلك حيوانات عاشبة، بولها مكدرا اللون وغير حمضي، فاكتشفت، أن إمساكها عن الطعام، ينتج حموضة مفاجئة في بولها، وزيادة مهمة نسبيا في مادة "الأوريا" Urée (مادة بلورية توجد في بول الحيوانات اللاحمة)، إلى درجة أنها كانت تتبلر، أحيانا، بشكل تلقائي في البول بعد برودته. وهكذا خلصت على إثر تجاربي، إلى هذه القضية العامة التي لم تكن معروفة حينها، ومؤداها أن كل الحيوانات تتغذى باللحم، عند إمساكها عن الطعام، بحيث يغدو بول الحيوانات العاشبة مشابها لبول الحيوانات اللاحمة.
كلود برنار- مدخل لدراسة المنهج التجريبي ص 216-217 نقلا عن "مباهج الفلسفة
   
يقدم هذا النص تجربة علمية تكاد تكون غاية في النموذجية و الوضوح لمفهوم التجريب كما يتجلى في مراحل المنهج التجريبي:
1- لاحظت بالصدفة ...
 يبدو وكأن شرارة البحث العلمي تنقدح من ملاحظات عفوية تثير انتباه العالم، بيد أن الصدفة كما يقول باستور لا تواتي سوى العقول المتيقظة

2- استرعى انتباهي ما لاحظته ...
 حصول تعارض بين معطيات الملاحظة والمعارف العلمية السابقة، والواقع أن هذه الأخيرة هي التي تعطي للملاحظات دلالتها العلمية، وتنتقل بالموضوع من "موضوع واقعي" إلى "موضوع-معرفة"

3- فافترضت أن ...
 اقتراح تفسير للملاحظة. تقول هذه الفرضية أن الأرانب وهي حيوانات عاشبة قد خضعت لنظام غذائي شبيه بالنظام الغدائي للحيوانات اللاحمة. ذلك أن الإمساك الطويل عن الطعام جعلها تقتات من مخزونها

4- لم أجد أيسر من التحقق بواسطة التجربة...

فقدمت ... 
لاحظت ... 
ثم أخضعت ... 
وكررت... للتأكد من دور مختلف العوامل
-فكنت أحصل ...
-فاكتشفت...
تشير مختلف هذه الإجراءات إلى البروتوكول الذي يتم وفقه التجريب، ويستهدف كل هذه الإجراءات التحقق من صحة الفرضيات واختبار التنبؤات التي تستنبط منها

5ـ- وهكذا خلصت.. إلى هذه القضية العامة ... ومؤداها أن كل الحيوانات ...
مرحلة الاستنتاج أو صياغة القانون العلمي الذي يتضمن بالضرورة نوعا من التعميم:لم يجر كلود برنار تجاربه سوى على الأرانب والخيول لكنه عمم نتائج التجريب على كل الحيوانات العاشبة

في مقام آخر من كتابه مدخل لدراسة الطب التجريبي، يجمل كلود برنار بنفسه المراحل السابقة محددا خصائص التجريب العلمي قائلا إن عقل العالم يوجد دوما بين ملاحظتين:
الملاحظة الأولى تسمح للعالم بالتعرف على الظاهرة ومعاينتها، وتولد في ذهنه سلسلة من الاستدلالات هدفها تفسير الوقائع الملاحظة بواسطة مجموعة من المبادئ والفرضيات ثم تصور عدة تجريبية لاختبارها
الملاحظة الثانية تواكب التجريب وتعقبه، حيث يقوم العالم بمعاينة النتائج التي أحدثها تدخله في الظاهرة المدروسة لكي يسجل جواب الظاهرة على سؤاله


خلاصة:

يتضح من هذا المثال أنه إذا كانت التجربة بمعناها العام هي مايحدث لنا فإن التجريب العلمي هي ما يحدثه العالم، الذي لا يكتفي بالإنصات للواقع بل يستنطقه محدثا خللا في الظاهرة المدروسة ومسجلا ردود أفعالها؛ وإذا كانت التجربة تلقيا، فإن التجريب حوار.
و عن هذا الحوار، يقول بريغوجين وستانجر في مؤلفهما المشترك "العهد الجديد، تحولات العلم":
نص ستانجر وبريغوجين : الحوار التجريبي

أثبت العلم الحديث قدرته على أن يقيم وبشكل منهجي حوارا تجريبيا مع الطبيعة. وهذا الحوار التجريبي ممارسة فاعلة وليس مجرد ملاحظة سلبية. إذ يتعلق الأمر بإعادة إخراج الواقع الفيزيائي وتشكيله ليتطابق ما أمكن مع الوصف النظري. يتم ذلك من خلال تحضير الظاهرة المدروسة وتنقيتها وعزلها إلى أن تطابق وضعية مثالية غير متحققة فيزيائيا ولكن معقولة من حيث أنها تجسيد للفرضية النظرية التي توجه مختلف الاجراءات التجريبية. وهكذا فالعلاقة الوثيقة بين التجربة و النظرية تنجم من كون التجريب يخضع السيرورات الطبيعية لاستنطاق لايكتسب كامل معناه إلا انطلاقا من فرضية تتناول المبادئ التي تخضع لها هذه السيرورات وبالنظر إلى مجموعة من الافتراضات الأولية المتعلقة بسلوكات لايعقل نسبتها إلى الطبيعة
ILYA PRYGOGINE ISABELLE STENGERS, LA NOUVELLE ALLIANCE, METAMORPHOSE DE LA SCIENCE, Gallimard 1979 p 48 


وباختصار شديد:أين يكمن التقابل إذن؟
إنه قائم بين موقف تجريبي منفعل وموقف تجريبي فاعل (التجريب)، بين صدمة الفكر أوإنصاته للعالم الخارجي وهجومه عليه واستنطاقه إياه
تناقض قائم قائم بين تجربة تحدث لنا وتجريب يحدثه العالم
كما لو أن التجارب الجمالية والروحية والعاطفية ... هي نماذج لتجربة منفعلة في حين أن التجريب هو تجربة فاعلة


إشكاليةالمحور الثاني: العقلانية العلمية 
  
نعود مرة أخرى إلى عبارة "علم تجريبي" لنتساءل: إذا كان التجربة هي مايميز العلم، فما حظ العقل ؟ وماذا طبيعة هذا العقل، أي ماطبيعة العقل العلمي ؟
تبين لنا في المحور الأول أن التجريب العلمي حوار، يتأسس على خطة وافتراضات، أي على بناء نظري /عقلي يتم على ضوئه مساءلة التجربة وتأويل أجوبتها
نريد في هذا المحور أن نركز أكثر على طبيعة العقل ووظائفه كما تفرزهما الممارسة العلمية، وكذا التأمل أيضا في نمط اشتغال العقل داخل ذلك الحوار التجريبي الذي تقيمه العلوم الحقة مع الطبيعة

ماطبيعة العقلانية العلمية؟ قبل أن تجيب الابستملوجيا المعاصرة على هذا السؤال، فقد أجاب عنه تاريخ الفلسفة من قبل، فيما يسمى بالنزعة العقلانية وخصيمتها التجربيبة، مما يفرض علينا سؤالا إضافيا: إذا كنا نتحدث اليوم عن عقلانية علمية، فما الفرق بينها وبين العقلانية أي ذلك المذهب الفلسفي المعروف؟

1- هل العقلانية العلمية نسخة معدلة للعقلانية الفلسفية أو المذهب العقلاني؟

بعد أن خفت الحماس التجريبي الذي واكب انبعاث العلم الحديث، ومع الاعتماد المتزايد على الصياغة والمعالجة الرياضية، ومع فقدان الموضوع الفيزيائي لطابع الشيئية في الميكروفيزياء...، انبعث مجددا مايسميه إينشتاين بحلم القدماء والمقصود به قدرة العقل على معرفة قوانين العالم الفيزيائي: ماذا يستطيع العقل متمثلا في البناء الرياضي أن يعرف؟ هل الرياضيات أداة كشف أم مجرد أداة للتعبير والصياغة؟

يوجد شبه إجماع بأن العقلانية العلمية تنفصل تماما عن العقلانية الفلسفية الكلاسيكية في صيغتها المكتملة والشامخة مع كانط، من حيث تخليها النهائي عن فكرة العقل كمضمون أو كبنية سطاتيكية مغلقة ونهائية قوامها مبادئ فطرية أو قبلية خار ج التاريخ. ولكن هل يعني ذلك قطيعة تامة بين العقلانيتين؟

 ولكن إذا ماخلصنا العقلانية الكانطية من الطابع القبلي لمقولات العقل، فإن العقلانية العلمية كما فهمها إينشتاين والكثير من الإبستملوجيين الفرنسيين ليست سوى إنجاز أومواصلة للمشروع الذي وضعه كانط في مقدمة الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص، في قوله: "لايرى العقل إلا ماينتجه هو وفق خططه الخاصة، وأن عليه أيضا أن يرغم الطبيعة على أن تجيب على أسئلته، لا أن ينقاد بحبال الطبيعة وحدها."
ويترجم روبير بلانشيه الوجه الجديد للعقلانية في هذه العبارات: “هكذا يعمل العقل على جعل التجربة تتوافق مع مفهوم النظام القبلي الذي يبدو في ظاهره مفهوما مناقضا للتجربة، شريطة أن ينزع العقل عن القبلي مايتضمنه من إطلاق وثبات، لئلا يستبقي من القبلية سوى فكرة وجود شرط يفرضه العقل بإيعاز من التجربة، من أجل تفسير معطيات هذه التجربة
(مباهج ص 74)

نص إينشتابن: الطابع المبدع والخلاق للعقلانية العلمية

يدافع إينشتاين في النص التالي عن الطابع الابداعي للعقلانية العلمية ويضع المبدأ الخلاق في العقل والرياضيات مادام تاريخ العلم الحديث يشهد بأن الطبيعة أجابت دائما على أسئلة مصاغة بلغة رياضية؛ ويلتقي بذلك مع التصورات الابستملوجية التي لم تعد تعتقد في قدرة التجريب وحده على التحليل السببي للظواهر.

 لاينكر إينشاتن أهمية التطابق مع التجربة كمعيار لتحديد فائدة الإنشاءات العقلية التي تظل بدون ذلك مجرد بناءات عقلية حرة، بيد أنه لايخفي مع ذلك ثقته في قدرة العقل على معرفة قوانين العالم الفيزيائي وتقديم صورة أكثر دقة عن هذا العالم الذي يشبه ساعة يدوية لاسبيل إلى فتحها، بل يتعين إنطلاقا من شكلها ومحيط دائرتها المتدرج وحركة العقارب والنبضات بناء أنساق ونماذج أقرب ماتكون إلى تمثيل الميكانيزم الداخلي المسؤول عن هذه المظاهر،
تبدو العقلانية العلمية مع أينشتاين تصديقا لحلم القدماء وطموحهم لفهم الواقع إنطلاقا من الفكر الخالص.،

نص أينشتاين : العقل الخالص قادر على معرفة الواقع 

‏إن كانت التجربة في بداية معرفتنا للواقع وفي نهايتها فأي دور يتبقى للعقل في العلم؟ إن نسقا كاملا من الفيزياء النظرية يتكون من مفاهيم وقوانين أساسية للربط بين تلك المقاهيم والنتائج التي تشتق منها بواسطة الاستنباط المنطقي وهذه النتائج هي التي يجب أن تتطابق معها تجاربنا الخاصة.
‏هكذا نكون قد عينا لكل من العقل والتجربة موقعه ضمن نسق الفيزياء النظرية، فالعقل يمنح النسق بنيته؛ أما معطيات التجرية وعلاقاتها المتبادلة فيجب أن تطابق بدقة نتائج النظرية.
‏وتستند قيمة مجموع النسق وتبريره على إمكانية ذلك التطابق فقط، وبالضبط، التطابق بين المقاهيم الأساسية والقوانين القاعدية، والا بقيت مجرد إبداعات حرة للعقل البشري دون أي مبرر قبلي سواء من طبيعة العقل البشري أو من أية طبيعة كانت.
‏وتمثل المقاهيم والقوانين الأساسية التي لا يمكن الدفع باختزالها المنطقي أكثر، الجزء الضروري في النظرية والذي لا يمكن استنباطه عقليا . ولا شك أن الهدف الأسمى لكل نظرية هو العمل على تبسيط وتقليص عدد تلك العناصر الأساسية غير القابلة للاختزال قدر الإمكان، دون أن يعني ذلك التخلي عن إمكانية تمثيل ولو معطى واحدا من التجربة تمثيلا ملائما ( .. .)
‏إنني متيقن أن البناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المقاهيم والقوانين التي تحكمها والتي تمكننا من مفتاح فهم الظواهر الطبيعية. طبعا يمكن للتجربة أن ترشدنا في اختيار المفاهيم الرياضية التي سنستعملها، إلا أنها لا يمكن أن تكون هي المنبع الذي تصدر عنه. صحيح أن التجربة تمثل معيار المنفعة الوحيد للبناءات الرياضية في للفيزياء، بيد أن المبدأ الخلاق الحقيقي يوجد في الرياضيات.
‏وبمعنى ما ، إني أصادق على أن الفكر الخالص قادر على فهم الواقع، كما كان يحلم بذلك القدماء.

A Einstein, sur la methode de la physique theorique 1933 
Cité par L.Hansen-love et F. Khoddos , Philosophie erminale T1 Hatier 1989 p367 


2- المعرفة العلمية معقولةولكنها ليست عقلانية

ولكن ألا يسقطنا موقف إينشتاين في مزالق تصور مثالي للعقلانية العلمية؟ وهو المنزلق الذي يتهدد كل التصورات العقلانية قديما وحديثا، وذلك عندما يعتقد أن للعقل قوة خاصة به، يكتشف بواسطتها القوانين العامة للعالم الفزيائي؟
ألا ينبغي التشديد بالمقابل على الخاصية التجريبية للعقلانية العلمية؟
يرى رايشنباخ أن المعرفة العلمية معقولة ، ولكنه ينكر أن تكون عقلانية إذا فهم من هذه الأخيرة ذلك المذهب الفلسفي الذي تجعل العقل مصدرا لمعرفة العالم الفيزيائي
إن المعرفة العلمية معقولة لأنها تستخدم العقل مطبقا على مادة الملاحظة، مادام أن الملاحظة التجريبية هي مصدر للحقيقة عند رايشنباخ وغيرهم من فلاسفة الوضعية المنطقية، لكنها ليست عقلانية لأنها لا تتخد العقل مصدرا للمعرفة التركيبية المتعلقة بالعالم. ويرى رايشنباخ أن القرنين التاسع عشر والعشرين قد هيأ أخيرا وسائل تنفيد برنامج الفلسفة التجريبية القائل بأن كل حقيقة تركيبية تستمد من الملاحظة وأن كل امايسهم به العقل في المعرفة ذو طبيعة تحليلية.
وإذا كانت نجاحات المنهج الفرضي الاستنباطي في الرياضيات وفي الفيزياء اللنظرية تغذي ضروب الثقة في العقل، فإن رايشنباخ لايفوته أن يعتبر علماء الرياضيات أكثر من غيرهم عرضة للسقوط في تصور صوفي مثالي للعقلانية العلمية لما يعاينونه في علمهم من نجاح لمنهج الاستنباط المنطقي والاستبصار العقلي المستغني عن الإدراك الحسي.
إن الرياضيات شأنها شأن المنطق معرفة تحليلية، بيد أن معرفة الواقع الفيزيائي تستدعي معرفة تركيبية لا غنى لها عن الملاحظة.

 وهكذا ينتهي الوضعية إلى تصور "أقل عقلانية" للعقلانية العلمية

نص هانز رايشنباخ : المعرفة العلمية معقولة وليست عقلانية 

يطلق على نوع الفلسفة التي تجعل العقل مصدرا لمعرفة العالم الفيزيائي إسم المذهب العقلي، وينبغي أن نميز بدقة بين هذا النمط، وكذلك الصفة المشتقة منه، وهي عقلاني، وبين لفظ معقول. فالمعرفة العلمية يتم التوصل إليها باستخدام مناهج معقولة لأنها تقتضي استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة. غير أنها ليست عقلانية، إذ أن هذه الصفة لاتنطبق على المنهج العلمي، وإنما على المنهج الفلسفي الذي يتخد من العقل مصدرا للمعرفة التركيبية المتعلقة بالعالم، ولايشترط ملاحظة لتحقيق هذه المعرفة.
‏وفي كثير من الأحيان يقتصر إسم المذهب العقلي في الكتابات الفلسفية، على مذاهب معينة في العصر الحديث، بينما يطلق على المذاهب ذات النمط الأفلاطوني اسم المثالية تمييزا لها عن السابقة. على أننا سوف نستخدم اسم المذهب العقلي، بالمعنى الواسع دائما، بحيث يشمل المثالية. ويبدو أن لهذا الجمع ما يبرره، لأن نوعي الفلسفة متماثلان من حيث إنهما ينظران إلى العقل على أنه مصدر مستقل لمعرفة العالم الفزياثي. . . ويبدو من المفهوم أن العالم الرياضي يكون أكثر من غيره تعرضا للتحول إلى المذهب العقلي. ذلك أنه حين يدرك مدى نجاح الاستنباط المنطقي في مجال لا يحتاج إلى الرجوع إلى التجربة .. تكون النتيجة نظرية للمعرفة تحل فيها أفعال الاستبصار العقلي محل الإدراك الحسي، ويعتقد فيها أن للعقل قوة خاصة به، يكتشف بواسطتها القوانين العامة للعالم الفزيائي. وعندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة، لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة . فإذا كان في استطاعة العقل أن يخلق المعرفة ، فإن بقية النواتج التي يخلقها الذهن البشري يمكن أن تعد بدورها جديرة بأن تسمى معرفة . ومن هذا المفهوم ينشأ مزيج غريب من النزعة الصوفية ‏والنزعة الرياضية .

 ‏هانز رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكرياء. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت - ط 2 ‏- 1979 ص: 40 ‏- 41 نقلا عن "مباهج الفلسفة"
  
خلاصة:
رأينا أن التفكير في طبيعة العقلانية العلمية يقود إلى مراجعة الطابع القبلي الثابت لمبادئ العقل، لكنه يفتح مجددا السجال بين النزعتين العقلانية والتجريبية وقد اتخدت هذه الأخيرة إسم الوضعية

المحور الثالث: معايير علمية النظريات 
  
لنتأمل للمرة الأخيرة عبارة "علم تجريبي" ولنسأل أنفسنا: متى تكون نظرية ما علمية؟ والجواب البديهي: عندما تطابق الواقع، ويتم التحقق منها بواسطة التجربة

وهو جواب صحيح إلى حد بعيد، مادام الواقع الذي يحاوره العلم من خلال التجريب هو موضوع وهدف النظريات العلمية. ولكن، بأي معنى يتم التحقق من النظريات العلمية، وهل هذا التحقق ممكن في جميع الأحوال؟ وماهي حدود التحقق إذا علمنا أن التعميم الذي يميز القوانين التتي توحدها النظرية قائم على استقراءات ناقصة؟ ألا ينبغي القول أن معيار صلاحية النظرية هو قابليتها للتكذيب وصمودها في وجه اختبارات ممحصة تستهدف تزييفها باستمرار؟
ولكن لماذا تطرح الإبستملوجيا، أصلا، السؤال حول علمية النظريات ؟
عندما ترغب في تمييز العلم عن اللاعلم
يظهر ذلك عند الوضعيين في رغبتهم تمييز العلم عن الميتافيزيقا
وكذا عند كارل بوبر في رغبته تمييز العلم عن أشباه العلم مثل الماركسية والتحليل النفسي

1- تكمن صلاحية النظرية العلمية في اجتيازها الناجح لاختبار التحقق التجريبي

يتحدد معيار صلاحيتها انطلاقا من وظيفتها: لايقبل دوهيم كغيره من الوضعيين إسناد مهمة التفسير للنظرية، لأن التفسير -كما يدل على ذلك الأصل اللاتيني لهذه الكلمة - يقتضي من النظرية أن تكشف النقاب عن الواقع الحقيقي الذي يتوارى خلف المظاهر التي تكممها وتربط بينها القوانين التجريبية. وبذلك تقع النظرية تحت سلطان الميتافيزيقا!!
إذا لم يكن درو النظرية هو التفسير فمادورها إذن؟

 يتوقف دور نظرية عليمة جديرة بهذا النعت عند مستوى الوصف، بحيث تعبر بأكبر مايمكن من الدقة والبساطة عن مجموعة من القوانين التجريبية، وبذلك
فإن مهمة النظرية الفيزيائية ووظيفتها هي اقتصاد المجهود الذهني ، وإضفاء النظام على القوانين التجريبية ، وجعلها أسهل تناولا .ولو أخدنا فيزياء البصريات على سبيل المثال، سنجد أن الاختزال والبساطة توجدان على مستوى القانون التجريبيي ذاته الذي يقيم علاقة رياضية بين الشعاع الساقط والشعاع المرتد والمستوى، مختزلا بذلك حالات إنعكاس الضوء اللامتناهية، ثم يزداد التوحيد والتبسيط مع النظرية البصرية therie optique التي تجمع مختلف قوانين الظواهر البصرية
إذا صح أن النظرية وصفية، فمامن شك في أن معيار صلاحيتها يتحدد أساسا في تطابقها مع ماتدعي وصفه ، أي في اجتيازها الناجح لاختبار التحقق التجريبي؛ بيد أن دوهيم لايهمل معيار الاتساق المنطقي في مرحلة الصياغة والمعالجة الرياضية لمبادئ ومكونات النظرية وربط الفرضيات بالمبادئ...، بيد أن قيمة هذا الاتساق تتحدد في نهاية المطاف بمدى تطابق النتائج مع القوانين التجريبية آخدين بعين الاعتبار ماتسمح به أدوات القياس من دقة نسبية. .

نص بيير دوهيم: وظيفة النظرية العلمية هو الوصف ومعيار صلاحيتها تطابقها مع ما تصف 

نبدأ أولا بفحص الموقف الذي يجعل من التفسير غاية النظرية
الأصل اللاتيني لكلمة تفسير يعني تعرية الواقع من المظاهر التي تحجبه لرؤيته مباشرة وجها لوجه
[بيد أن ] ملاحظة الظواهر الفيزيائية لاتضعنا أمام واقع يختبئ خلف المظاهر الحسية، بل أمام هذه المظاهر نفسها منظورا إليها من زاوية خاصة وملموسة. والقوانين التجريبية لاتستهدف [حقيقة] الواقع المادي،بل هذه النظاهر نفسها لكن بشكل مجرد وعام
(...)
لو قبلنا أن النظرية الفيزيائية تفسير، فلن تبلغ هذه النظرية هدفها مالم تزح جانبا كل المظاهر الحسية لتمسك بالواقع الفيزيائي [الحقيقي[ وهكذا فأبحاصث نيوتن حول تشتت الضوء مثلا
‏إن اعتبار النظرية الفيزيائية كتفسير افتراضي للواقع المادي يترتب عنه جعل هذه النظرية تابعة للميتافيزيقا ، وبذلك فعوضا عن إعطائها شكلا تقبله مجموعة كبيرة من المفكرين، فإننا نجعل القبول مقتصرا على أو لئلك الذين يعترفون
‏بالفلسفة التي تدعي هذه النظرية الفيزيائية الانتماء إليها (...)
‏ألا يمكننا أن نعين للنظرية الفيزيائية موضوعا تصبر بمقتضاه مستقلة آعن كل ميتافيزيقا ؟ (...)
‏ألا يمكننا ، لبناء نظرية فيزيائية، إيجاد منهج مكتف بذاته ؟ (...)
‏إن النظرية الفيرياثية ليست تفسيرا . إنها نسق من القضايا الرياضية المسنبئطة من عدد قليل من المبادئ، غايتها أن تمثل تماما وببساطة، وبصورة صحيحة، ما أمكن ذلك، مجموع القوانين التحريية. ولتدقيق هذا التعريف نقوم بتحديد خصائص العمليات المتتالية الأربع التي تكون النظرية الفزيائية :
‏ا . من بين الخصائص الفيزيائية التي نقترح عرضها ، نختار تلك التي ننظر إليها كخصائص بسيطة والتي من المفروض أن تكون الخصائص الأخرى عبارة عن تجميعات أوتركيبات لها . وسنقابلها ، وذلك باستعمال طرق قياس ملآثمة، بما يناسبها من رموز رياضية، وأعداد، ومقادير. هذه الرموز الرياضية ليست لها أية علاقة طبيعية مع الخصائص التي تمثلها ، وانما لها معها علاقة دال بمدلول، وبواسطة طرق القياس يمكننا أن نقابل كل حالة فيزيائية بقيمة للرمز الممثل لها
‏والعكس بالعكس.
2 ‏. نربط بين مختلف أنواع المقادير التي أدخلت هكذا بواسطة عدد قليل من القضايا تسختدم كمبادئ لاستئنطاتها ، هذه المبادئ يمكن تسميتها فرضيات، بالمعنى الأصلي للكلمة، لأنها في الحقيقة أسس سيقوم عليها بناء النظرية . لكنها لا تدعي بأي حال من الأحوال التعبير عن العلاقات الحقيقية بين الخصائص الواقعية للأجسام. هذه القضايا يمكن إذن أن توضع بطريقة اعتباطية. والحاجز الوحيد الذي لا يمكن تخطيه مطلقا هو التناقض المنطقي إما بين ‏حدود نفس الفرضية، واما بين مختلف فرضيات نفس النظرية.
3 ‏. إن مختلف مبادئ وفرضيات نظرية ما تتركب فيما بينها حسب قواعد الاستنباط الرياضي، وخلال هذه العملية لا يكون العالم الفيزيائي مطالبا إلا بإرضاء مقتضيات المنطق الجبري. إن المقادير التي تقع عليها حسابات العالم الفيزيائي المذكور لا تدعي بتاتا أنها وقائع فزيائية، والمبادئ التي يستند إليها في استنباطاته لا يمكن أخذها على أنها تعبير عن علاقات حقيقية بين هذه الوقائع. فغير مهم إذن أن تكون العمليات التي ينجزها تتناسب أولا تتناسب مع التغييرات الفزيائية الواقعية (...)
4 ‏. إن مختلف النتائج التي استخرجناها هكذا من الفرضيات يمكن ترجمتها إلى ما يناسبها من أحكام تتعلق ‏بالخصائص الفزيائية للأجسام ؛ والمناهج الخاصة بتعريف وقياس هذه الخصائص الفيزيائية تكون بمثابة اللغة أو المفتاح الذي يسمح بتلك الترجمة، هذه الأحكام نقارنها مع القوانين التجريبية التي تروم النظرية تمثيلها ، فإذا توافقت الأحكام مع القوانين تكون النظرية قد أصابت هدفها وأثبتت صلاحيتها ، والا كانت غير صالحة ومن ثم وجب تعديلها أو رفضها .
‏وهكذا فالنظرية الصحيحة ليست كك التي تعطي عن المظاهر الفيزيائية تفسيرا مطابقا للواقع، بل النظرية الصحيحة هي التي تعبر بطريقة مرضية عن مجموعة من القوانين التجريبية. والنظرية الفاسدة ليست محاولة تفسيرية معتمدة على فرضيات مناقضة للواقع، بل هي عبارة عن مجموعة قضايا لا تتوافق مع القوانين التجريبية
‏إن الاتفاق مع التجربة يشكل بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة.
‏إن التعريف الذي قمنا بعرضه بصفة مجملة يميز في النظرية الفيزيائية أربع عمليات أساسية.
‏( . تعريف المقادير الفيزيائية وقياسها .
2 ‏. اختبار الفرضيات.
3 ‏. الاستنتاجات الرياضية من النظرية.
 4 ‏. مقارنة النظرية بالتجربة.

‏بيير دوهيم النظرية الفيزيائية موصوعها وبنياتها منشورات ريفيير 1914 ص ص. 23-26 ‏ 
   
1- تكمن صلاحية النظرية العلمية في قابليتها للتكذيب
يبدو معيار الاختبارية أو التحقق التجريبي معيارا مقبولا لولا أن تاريخ العلم نفسه يشهد بأن هذا الشرط لاتستوفيه النظريات العلمية دوما
يرى كارل بوبر أن الوقائع لا تفرز النظريات بل تحد من عددها، أي تكشف زيف النظريات الخاطئة أكثر مما تكشف صحة التظريات الصحيحة. وتلتقي هذه الفكرة مع ملاحظة إينشتاين مفادها أن التجربة تجيب دائما على الأسئلة التي نطرحها عليها بــ "لا" وأحيانا "ربما"

ويتلخص مبدأ قابلية التكذيب في أن كل تعميم علمي ( تجريبي ) ـ فرضا كان أو نظرية أو نسقا ـ يعتمد على استقراءات ناقصة غير تامة، فيكون قابلا للتكذيب من حيث المبدأ ، طالما أنه من الممكن منطقيا ، وجود قضية أو عدة قضايا تجريبية ، تند عن ذلك التعميم أو لا تكون مواتية له ، بحيث لو صدقت لاستلزم ذلك كذب التعميم. وهكذا فعبارة "كل البجع أبيض" الصادقة في حالات كثيرة لاتستبعد منطقيا إمكانية العثور على بجعة سوداء تزيف ذلك التعميم .
وطالما أن النظريات العلمية هي من قبيل التعميمات الكلية ، فلا يمكن منطقيا البرهنة على صحتها ، ولكن يمكن فقط إظهار أنها كاذبة . واختبار النظرية إنما يعني وضعها موضع المخاطرة . والمخاطرة لا تكمن في التنبؤ إيجابيا بوقائع معينة، بل استبعاد حدوث وقائع أخرى باعتبارها غير ممكنة الوقوع فإذا ما حدث عكس ذلك بالفعل، فانه ينبغي في هذه الحالة رفض النظرية أو إعادة صياغتها من جديد.
إن النظرية لاتكون علمية إلا إذا تضمنت تنبؤا بإمكانية حدوث وقائع معينة واستبعادا لحدوث وقائع أخرى ؛ بمعى آخر ينبغي أن تنص النظرية العلمية على أن طائفة من الوقائع لايمكن أن تحدث
ولو حدثت هذه الوقائع فذلك يعني تزييف النظرية
وهذا شر ط لاتستوفيه نظريتا التحليل النفسي والماركسية مثلا لأنهما تسعيان إلى إدماج وتأويل كل الوقائع الممكنة تحت معطف النظرية، بحيث لاتوجد واقعة تند عن التفسير الذي تقترحه مثل هذه النظريات

نص كارل بوبر : معيار قابلية التكذيب 

أن كل عالم يدعي أن الملاحظة أو التجربة تدعم نظريته يجب أن يكون على استعداد لأن يطرح على نفسه السؤال التالي: هل أستطيع وصف أي نتائج محتملة للملاحظة أو التجربة، والتي إذا بلغناها بالفعل، يمكن أن تفند نظريتي ؟ ‏إذا لم يكن هذا ممكنا، فمن الواضح أن نظريتي ليست نظرية تجريبية.أنه إذا اتفقت كل الملاحظات المتصورة مع نظريتي، فلن يجوز لي حينئذ الزعم.بأن أي ملاحظة معينة تعطي تدعيما تجريبيا لنظريتي. أو باختصار، لن أستطيع الزعم بأن نظريتي لها خاصية النظرية التجريبية، إلا إذا كنت أستطيع أن أقول كيف يمكن تفنيد نظريتي أو تكذيبهإ (01)ء
وهذا المعيار للتمييز بين النظريات التجريبية والنظريات اللاتجريبية قد أطلقت عليه أيضا معيار القابلية للتكذيب أو معيار القابلية للتفنيد . ولا يتضمن هذا أن النظريات غير القابلة للتفنيد كاذبة. ولا يتضمن أنها خلو من المعنى. على أنه يتضمن أن نظرية معينة تعد واقعة خارج مجال العلم التجريبي، قدر ما لا تستطيع وصف كيف يمكن أن يأتي التفنيد المحتمل لها
‏معيار القابلية للتفنيد أو القابلية للتكذيب يمكن أيضا أن نطلق عليه معيار القابلية للاختبار. ذلك أن اختبار النظرية، تماما كاختبار جزء من آلة ميكانيكية، يعني محاولة تبين العيب فيها . وبالتالي، فإن النظرية التي نعرف مقدما أنه لا يمكن تبيان العيب فيها أو تفنيدها هي نظرية غير قابلة للاختبار (02)ء. ‏وينبغي أن نستبين بجلاء أن هناك أمثلة عديدة في تاريخ العلم لنظريات تكون غير قابلة للاختبار في مراحل معينة من تطور العلم لكنها تغدو قابلة للاختبار في مرحلة لاحقة (03)ء 
(...) 
‏إن معيار القابلية للتفنيد، أو القابلية للتكذيب، أو القابلية للاختبار مجرد خطوة أولى لحل مشكلة بيكون.(04) وكما رأينا ، تقطع هذه الخطوة بأن يسأل العالم الذي يدعي أن الملاحظة أو التجربة تدعم نظريته: هل نظريتك قابلة للتفنيد؟ وما هي التجربة أو الملاحظة التي قد تتوقعها كتفنيد لها ؟ 
‏إذا كانت الإجابة عن هذين السؤالين مرضية؟ حينئذ، وحينئذ فقط ‏يمكن أن نستأنف المسير لقطع الخطوة الثانية في حلنا لمشكلة بيكون إنها تتلخص في الآتي: يمكن قبول الملاحظات أو التجارب كتأكيد للنظرية (أو الفرض، أو التقرير العلمي) فقط إذا كانت هذه الملاحظات أو التجارب اختبارات قاسية للنظرية، أو، بعبارة أخرى، فقط إذا ما كانت قد نجعت عن محاولات جادة لتفنيد النظرية، وخصوصا عن محاولة اكتشاف العيوب حيثما نتوقعها في ضوء معارفنا بأسرها، بما فيها معارفنا بالنظريات المنافسة. وأعتقد أن هذا، من حيث المبدأ ، يحل مشكلة بيكون
‏يتلخص الحل في الآتي: الاتفاق بين النظرية والملاحظة لا يعد شيئا ما لم تكن النظرية قابلة للاختبار،(05) وما لم يكن الاتفاق قد تم التوصل إليه كنتيجة لمحاولات جادة لاختبار النظرية. على أن اختبار النظرية يعني محاولة إيجاد نقاط الضعف فيها . إنه يعني محاولة تفنيدها . وتكون النظرية قابلة للاختبار إذا كانت (من حيث المبدأ) قابلة للتفنيد (06)ء

كارل بوبر، أسطورة الإطار ترجمة يمنى طريف الخولي ، سلسلة عالم المعرفة ع292 يناير 2003 الكويت ص ص 115-117 

العلوم الإنسانية 

بين يدي الإشكال: مقدمة لابد منها- العلوم الإنسانية بين الفلسفة والعلوم الحقة

هذه بعض الأبجديات التي سنستخدمها مرارا في الدرس، فوجب استيعابها منذ البداية
صحيح أن العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع أو علم النفس أو الانثربلوجيا أو الاقتصاد، حديثة النشأة في القرن التاسع عشر، بيد أن الدراسات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية قد وجدت دوما مبثوثة في ثنايا المصنفات الفلسفية؛ بل إننا إذا تأملنا علما إنسانيا خاصا هو علم التاريخ نجده علما عريقا عراقة علم الرياضيات نفسه. ولكننا نلاحظ أيضا أن علم التاريخ نفسه ورغم عراقته لم يطرح وجوده أية إشكالية منهجية أو ابستملوجية إلا منذ القرن الثامن عشر. لماذا؟
لقد تزامن ذلك مع الميلاد الحديث للعلوم التجريبية التي قدمت نموذجا باهرا للعلمية سواء من حيث دقة المناهج والنتائج أو نجاعتها لما وفرته من قدرة على التحكم في الظواهر الطبيعية، ولن يكف هذا النموذج عن ممارسة تأثيره وجاذبيته منذ ذلك الوقت.
هكذا سيكون وجود العلوم الإنسانية موسوما منذ البداية بالتوتر بين قطبين، موجودان أصلا في الاسم نفسه "علوم / إنسانية"
  
-"علوم" يحيل هذا المكون بشكل لا مفر منه على العلوم التجريبية التي تمثل كما أسلفنا- النموذج المثالي للعلمية؛ 
"إنسانية": يحيل هذا النعت إلى الفلسفة من حيث أن هذه الأخيرة تتخذ بدورها الإنسان كموضوع لها 
ويتضح ذلك في الجدول التالي:
  
طرح أولي للإشكال
  
هل تستطيع العلوم الإنسانية أن تنأى عن الفلسفة ؟ وفي هذه الحالة هل ستسعى إلى التطابق مع العلوم الحقة؟ أم أنها ستزاوج بين مناهج الفلسفة ومناهج علوم الطبيعة؟ أم ستبدع لنفسها منهجها الخاص ها بحيث يلاءم خصوصية الظواهر الإنسانية؟
ماهي خصوصيات الظواهر الإنسانية أولا؟

ظواهر فريدة، غير قابلة للتكرار وما يستخلص من دراسة ظاهرة واحدة يصعب تعميمه لنذرة الظواهر المماثلة،  
ظواهر معقدة، متعددة ومتداخلة الأبعاد يصعب عزلها بيسر أو تعيين دور كل منها في تحديد الظاهرة. والأبعاد المقصودة هي: البعد البيولوجي، الاجتماعي، الثقافي، النفسي، التاريخي، الاقتصادي...
  
إعادة صياغة الطرح الإشكالي

إذا علمنا أن العلم، كيفما كان، يتحدد من خلال موضوع ومنهج. فيمكننا طرح إشكالية "مسألة العلمية في العلوم الإنسانية" من زاويتين: زاوية الموضوع وزاوية المنهج

إشكالية الموضوع: كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية و الدارس والمدروس معا هو الإنسان !
  
إشكالية المنهج: بعد أن تعين العلوم الإنسانية موضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أ ي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم الحقة، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟

المحور الأول: إشكالية موضعة الظاهرة الإنسانية

يقصد بالموضعة مختلف الإجراءات المنهجية الهادفة إلى تعيين ظاهرة ما أو طائفة من الظواهر كموضوع علمي متمايز عن الذات الدارسة.
كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية والدارس والمدروس معا هو الإنسان !

1-في سبيل موضعة الظاهرة الإنسانية

غالبا ما تطرح إشكالية الموضعة في مرحلة نشأة علم ما، عندما ينشغل رواده بتعريف موضوع علمهم ليتسنى لهم دراسته. في هذا الإطار نفهم تعريف إميل دوركايم لموضوع السوسيولوجيا بوصفه مرافعة من أجل موضعة الظاهرة الإنسانية. يرى دوركايم أن هذه الموضعة ممكنة لأن الظاهرة الاجتماعية شيء كباقي الأشياء. وتعريف الشيء عنده هو الموجود وجودا خارجيا بحيث يعطى للملاحظة؛ ولذلك تنص أولى قواعد المنهج السوسيولوجي على معاملة الظواهر الاجتماعية كأشياء مادامت تتميز بالخارجية والوجود المستقل عن وعي الأفراد الذين يعونها ويتمثلونها ويخضعون لقسرها ولا يسعهم اختراعها أو تغييرها. وبذلك تتحقق مسافة وانفصال منهجي بين الذات ( عالم الاجتماع) و الموضوع وهو هنا الظاهرة الاجتماعية: إن ظاهرة الزواج مثلا أو الظاهرة الدينية وغيرها من ضروب السلوك والتفكير والشعور الاجتماعي لا توجد فقط خارج وعي الفرد، بل إنها تمتاز أيضا بقوة آمرة قاهرة بحيث تفرض نفسها على الأفراد.
وبذلك يظهر ان دوركايم يراهن على تحييد الوعي أي إفراغ الظواهر الإنسانية من خاصية الوعي ليتسنى موضعتها، لأن الوعي "عدو العلم" كما يقول ليفي شتروس
  
فقرة انتقالية: هل يكفي تعريف الظاهرة الاجتماعية / الإنسانية بالخارجية والقسر والاستقلال عن وعي الفرد لحل مشكلة الموضعة وتداخل الذات والموضوع؟

2- عوائق الموضعة 

يرى جون بياجي أن موضعة الظاهرة أكثر تعقيدا نظرا لتداخل الذات والموضوع على أكثر من صعيد.

فالذات الملاحظة بقدر ما تلاحظ غيرها وتجرب على غيرها، فإنها في نفس الوقت تلاحظ ذاتها وتجرب على ذاتها، وينتج عن ذلك أن تفاعل الذات والموضوع في فعل الدراسة يؤثر في سير الظاهرة المدروسة مثلما يؤثر في الذات الدارسة
  
غالبا ما تكون الذات الدارسة حاملة لمعرفة عفوية، مسبقة وحدسية حول الظاهرة المدروسة. لأن الدارس وقبل أن يكون عالم اجتماع مثلا فهو فاعل اجتماعي يتعرض لتأثير المعرفة الاجتماعية المتداولة. نقول إذن إن تحقيق القطيعة الابستملوجية بين المعرفة العفوية والمعرفة العلمية ليس بالأمر اليسير كما هو حال في علوم الطبيعة
  
يضاف إلى كل ما سبق الالتزام الفلسفي أو الايديلوجي لعالم الإنسانيات بحيث قد يميل إلى التبرير أو الإدانة ويجانب الحياد فيتجاوز الوصف إلى التقييم، وهو ما يسمى بمشكلة "أحكام القيمة"

خلاصة: إن السعي الحثيث لعلماء الإنسانيات من أجل تعريف موضوع علمهم وتحيييد الوعي وابتكار تقنيات لتحقيق القطيعة مع المعرفة العفوية لدليل على خصوصية الموضوع وما تطرحه موضعته من عوائق.

المحور الثاني: العلوم الإنسانية أمام نموذج علوم الطبيعة: مشكلة الفهم والتفسير

بعد تعيين العلوم الإنسانية لموضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم التجريبية، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟

1- العلوم الإنسانية ومنهج التفسير

يقصد بالتفسير هنا كشف العلاقات الثابتة الموجودة بين حادثتين أو أكثر، وإقامة علاقات سببية بينها بموجب ذلك. وهذا هو التفسير السببي، أما التفسير الغائي فقد أهمله العلم. ولايلائم التفسير السببي سوى الظواهر المتماثلة المطردة والقابلة للتكرار ليتم التعميم ( تفسير سقوط الأجسام بقانون الجاذبية)
وقد ارتبط منهج التفسير بالاتجاه الوضعي وخصوصا لدى المدرسة السوسيولوجية الفرنسية مع دوركايم ومارسيل موس. في محاولتها الرقي بعلم الاجتماع إلى مصاف العلم الدقيق بعيدا عن المناهج التأملية.
وبما أن التفسير يقوم – كما أسلفنا – على ربط ظاهرة بأخرى ربطا سببيا، فإننا نعثر في دراسة دوركايم لظاهرة "الانتحار" على حالة تكاد تكون نموذجية لمنهج التفسير في العلوم الإنسانية: فبناءا على إحصائيات الانتحار في عدد من الدول الأوروبية، خلص إلى أن معدلات الانتحار تتناسب عكسيا مع درجة التماسك الديني، لذلك ينتحر البروتستانت أكثر من الكاثوليك؛ و مع درجة التماسك الأسري، لذلك ينتحر العازبون أكثر من المتزوجين، والمتزوجون بدون أطفال أكثر من ذوي الأطفال؛ وأخيرا مع درجة التماسك السياسي، إذ ترتفع معدلات الانتحار في أوقات الهدوء السياسي والسلم الاجتماعي أكثر من فترات الحروب والأزمات الدبلوماسية .

مثال2: ينحصر موضوع علم النفس ، حسب المدرسة السلوكية، في دراسة السلوك الإنساني القابل للملاحظة، منظورا إليه كرد فعل على مثيرات قابلة للملاحظة بدورها، وكشف القوانين المتحكمة في علاقات المثيرات بالاستجابات، والامتناع عن صياغة فرضيات حول ما يقع داخل العلبة السوداء أي الوعي الإنساني

2-عوائق منهج التفسير وامكانيات منهج الفهم

لقد لجأ دوركايم إلى المقاربة الإحصائية لظاهرة الانتحار من أجل غربلة المحددات الذاتية، والفردية للظاهرة والاحتفاظ فقط بالمكون الجمعي للظاهرة الذي يهم السوسيولوجيا، والذي يمكن الوصول بصدده إلى تفسير سببي قابل للتعميم.
ولكن ألا يؤدي تحليل الظواهر الإنسانية على غرار الظواهر الطبيعية إلى إفراغ الأولى من أهم مقوماتها، من مكونها الداخلي أي الدلالات والنوايا والمقاصد والاكتفاء بالمحددات الخارجية للفعل ؟
بهذه الأسئلة ننفتح على دعاة المنهج المقابل، منهج الفهم والذي صاغته عبارة ديلتاي الشهيرة: " إننا نفسر الطبيعة، لكننا نفهم ظواهر الروح"
ولكن ماذا نقصد أولا بالفهم؟
لأن الفاعل الإنساني يمنح دلالة لأفعاله وللعالم من حوله ويسلك وقف غاية من حيث هو كائن واع، فالمقصود بالفهم - في مناهج العلوم أو الميتودلوجيا - إدراك الدلالة التي يتخدها الفعل بالنسبة للفاعل، وتتكون هذه الدلالات من المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل وتتحدد بالقيم التي توجهه، وغالبا ما يتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة فعل "التأويل"، الذي اقترن ظهوره بالدراسات اللاهوتية في سعيها إلى استكناه مقاصد النصوص المقدسة ودلالاتها الخفية.
ويقدم لنا التحليل النفسي مثالا نموذجيا لعلم إنساني يكاد يعتمد كلية على الفهم بمعنى التأويل : إذ تُتناول مختلف الظواهر النفسية السوية منها والمرضية، بما في ذلك الأحلام كعلامات حاملة لدلالات يتعين تأويلها وذلك بتجاوز المعاني الظاهرة والمقاصد الواعية، لدرجة دفعت الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان التحليل النفسي علما أو فنا في نهاية المطاف !
أما في علم الاجتماع، فيقدم لنا ماكس فيبر في دراسته الرائدة حول "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" مثالا آخر لتطبيق منهج الفهم يتركيزه على القيم المشتركة بين كل من السلوك الرأسمالي والموقف الأخلاقي البروتستانتي. وليس غريبا أن يقع اختيار فيبر على ظاهرة فريدة هي نشأة الرأسمالية في أوروبا، لأن منهج الفهم لا يهدف أصلا إلى اكتشاف انتظامات أوعلاقات سببية قابلة للتعميم على نطاق واسع

- 3-حدود منهج الفهم وعوائقه

يستدعي منا منهج الفهم بدوره بعض الملاحظات النقدية، وأهمها لامبالاته تجاه ضرورة التمييز، الذي يحرص منهج التفسير على إقامته، بين الذات والموضوع، ومادام الفهم ينصب على الدلالات ويقوم على ضرب من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الدارس وموضوع دراسته، ألا يخشى أن يسقط الدارس قيمه ودلالاته الخاصة على الظاهرة ؟ وكيف لنا آنذاك أن نميز بين دلالات الفعل لدى الفاعل/موضوع الدراسة ودلالاتها لدى الدارس؟
لعل هذا هو ما حذا بغاستون غرانجي إلى تشبيه منهج الفهم بالتفكير الأسطوري السحري حيث تسقط الذات خصائصها على الموضوع، وتنصهر فيه

خلاصة عامة للدرس:
بأي معنى وضمن أية شروط يمكن الحديث عن "علوم إنسانية" ؟ يحاول بعض علماء الإنسانيات استلهام مناهج العلوم الطبيعية التي أثبتت فعاليتها، بينما يرافع آخرون من أجل ابتكار منهج أصيل بدعوى عدم وجود معيار أو نموذج وحيد للعلمية. وبعبارة أخرى، يسعى البعض إلى الاستفادة من المكتسبات المنهجية للعلوم الحقة، بينما يجتهد آخرون لتأسيس نموذج مغاير للعلمية. إن هذه الإشكالات الميتودولوجية التي تعترض العلوم الإنسانية نابعة أساسا من خصوصية الموضوع وهو الظاهرة الإنسانية.




الحقيقة


المحور الأول: الحقيقة والرأي 


تمهيد لفهم الإشكال
ماهو التقابل أو المفارقة الموجهة لمسار تفكيرنا في هذا المحور؟ 
إذا كانت الحقيقة هي مطابقة الفكر لموضوعه، فماذا نقصد بالرأي؟ 
لا يقصد به في هذا المقام وجهة النظر الشخصية كما في قولك: " رأيي أن نقوم عوض أن نجلس" أي وجهة نظري أو موقفي، بل يقصد به فكرة أو تمثل أولي أو اعتقاد يعوزه اليقين في مقابل الحقيقة التي يفترض أنها يقينية مبرهن عليها بطريقة من طرق التدليل والاثبات والتحقق
بيد أن العلامة المميزة للرأي كخطاب وكنمط من المعرفة هو كونه متداولا ومتاحا للجميع، وبهذا المعنى الأخير يغدو الرأي مرادفا للحس المشترك أي الفهم الطبيعي المشترك بين الناس، المتاح مباشرة لكل فرد دونما حاجة إلى دراسات متخصصة أو منهجية

طرح الإشكال
دأبت الفلسفة على تقديم نفسها كخطاب للحقيقة والحقيقة المنزهة عن الغرض بالخصوص، تلك التي تنتج عن مجهود عقلي وروحي خاص. وإذا كانت الحقيقة نقيضا للخطأ والوهم والظن والتسرع والأحكام المسبقة، فإن كل هذه الأضداد تجتمع تحت مسمى واحد: الرأي
ولكن من يقيم هذه التقابلات أولا؟ هل هناك رأي يشير إلى نفسه باعتباره رأيا!؟ وهذه الحقيقة اليقينية الناتجة عن منهج وتدليل ومجهود عقلي، هل هي استمرار للرأي أم أنها تشكل قطيعة معه؟ 

معالجة الإشكال

1- تسفيه الرأي: الحقيقة كقطيعة مع الرأي



يميز أفلاطون بين الحقيقة من جهة والرأي أو الظن أو الدوكسا من جهة ثانية بحيث أن الأولى مرادفة لليقين والجوهر بينما يرادف الرأي الوهم والمظاهر وتقدم لنا محاورة مينون مثالا لشخصين أولهما يعلم الطريق إلى مدينة "لاريسا" علم اليقين وسبق له أن زارها بينما لا يعلم الثاني هذا الطريق إلا من جهة السماع والتخمين. من الممكن أن يهتدي الثاني إلى الطريق. إن معرفته لا تتجاوز الرأي بيد أنه "رأي سديد" ، ولكن بينما يصل ذو العلم إلى مبتغاه على الدوام وبشكل يقيني، يمكن لصاحب الرأي أن يبلغ مبتغاه حينا ويضل عنه حينا آخر

سيتخد الحذر من الرأي عند ديكارت طابعا منهجيا راديكاليا: تقع الحقيقة في نهاية سرداب يبدأ بالشروع ولو مرة واحدة في حياتنا في الشك في جميع الآراء التي تلقيناها وصدقناها وفي الأشياء التي نجد فيها أدنى شبهة من عدم اليقين بغية التخلص من الأحكام المسبقة و الآراء المتداولة التي تعجلنا في إطلاقها والتي تتشبت بأنفسنا بقوة
وتستمر فكرة القطيعة بين الحقيقة و الرأي في الفلسفة المعاصرة وبالضبط في الابستملوجيا الباشلارية: الرأي دائما خاطئ، الرأي نوع من التفكير السيء، بل إنه ليس تفكيرا على الاطلاق. وليس تاريخ العلوم إلا تاريخ دحض وهدم مستمرين للرأي أو بالأحرى لبادئ الرأي الذي يعد واحدا من أقوى العوائق الابستملوجية ومن حيث كونه فكرا تفرزه الحياة اليومية الغارقة في البراغماتية، فإن الرأي يكتفي بترجمة الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها فيحرم نفسه بذلك من معرفتها

فقرة انتقالية: لأن الفلسفة لا تتوانى عن وضع كل شيء موضع تساؤل بما في ذلك نفسها وادعاءاتها، فلامناص من أن نتساءل: ما "حقيقة" القطيعة بين الحقيقة والرأي؟ إذا كانت الحقيقة تفضل الرأي بكونها مبناة وفق منهج ودليل، ألا تقوم بعض الحقائق بدورها على اعتقادات وآراء لا سبيل للبرهنة أو التدليل على صحتها؟ هل يصح أن نقارب علاقة الحقيقة الفلسفية بالرأي كمقاربتنا لعلاقة الحقيقة العلمية به؟ 
  
2- إعادة الاعتبار للرأي: أوجه الاستمرارية بين الحقيقة والرأي 
  
يعتبر الاسكتلندي توماس ريد (1710-1796) مؤلف "بحث في الفكر الانساني وفق مبادئ الحس المشترك" من الفلاسفة القلائل الذين سعوا صراحة إلى اعادة الاعتبار إلى مقولات الحس المشترك وبداهاته والتي يرى أن افتراضاتها لا تقل قبولا عن الافتراضات الميتافيزية لأغلب المذاهب الفلسفية. بل إنها تتضمن من الصواب أكثر ما تحويه النظريات الفلسفية المنافسة والمبخسة لها. كما أن ما يدخله الفلاسفة في عداد الرأي او الحس المشترك أقدر ببداهاته على مقاومة مذاهب الشك الهدامة أكثر مما تستطيع أنساقهم الفلسفية نفسها. وتتميز اعتقادات الحس المشترك حسب توماس ريد بكونيتها، إذ لا يماري فيها سوى بعض الفلاسفة والحمقى، وببداهتها إذ أن نكرانها يوقع في التناقض 
وقد في نفس الإطار يندرج كتاب جورج توماس مور (1873–1958) " دفاع عن الحس المشترك
ويذكر فيتجنشتاين في كتابه "في اليقين" أزيد من 300 من القضايا والاعتقادات التي لا يكاد يتطرق إليها الشك ولم يجر أبدا التحقق أو التفكير في التحقق منها، بل ويستحيل التحقق من بعضها شخصيا كالاعتقاد بأن للناس أدمغة في جماجمهم أو أن هذين هما والدي فعلا وأن لي أجدادا وأسلافا وأنه توجد قارة تدعى استراليا...تدخل هذه القضايا وغيرها ضمن ما يسميه فيتجنشتاين بــ "صورة العالم" وهي أساس لكل ما أبحث عنه وأود تأكيده لاحقا وكل القضايا التي تريد وصف تلك الصورة غير خاضعة بدورها للتحقق. وبذلك يتطابق الرأي مع البداهات والحدوس الأولية التي يملكها الفرد عن العالم 


خلاصة: ماحقيقة التعارض بين الحقيقة والرأي؟ 
  
مما لا مراء فيه أن الحقيقة في العلم الذي يزداد موضوعه تخصصا ومناهجه دقة، تتعارض في أحيان كثيرة مع الرأي والحس والمشترك؛ والدوران البادي للشمس حول الأرض خير دليل على ذلك، ولكن ماذا عن حقائق الحياة اليومية والحقائق الأخلاقية والسياسية، وهي المجالات التي تنازع فيها الفلسفة الحس المشترك المشروعية وتنعته بالرأي؟ 
نسجل أولا أن الرأي أو الحس المشترك ليس كونيا أو لازمنيا كما اعتقد طوماس ريد، بل هو منتوج ثقافي يترجم القيم السائدة في حقبة أو مجتمع معين. ألم يكن الرق في وقت من الأوقات مقبولا من قبل الحس المشترك كممارسة لا غبار عليها من الناحية الأخلاقية ؟ 
ولكننا نسجل من جهة أخرى ميل الديمقراطيات الحديثة إلى إعادة الاعتبار للرأي فيما يسمى بالرأي العام واستطلاعات الرأي وكأن القرار السياسي أو الاقتصادي أو الأخلاقي الحق والصائب ليس سوى جماع الرأي السائد والمتداول على أوسع نطاق. قد نفسر ذلك بتعذر الحديث عن حقيقة يقينية في هذه المجالات التي يسود فيها الاحتمال والترجيح le plausible، ولأن الرأي والحس المشترك لم يعد مجرد اعتقادات ساذجة، بل اصبح "رأيا متنورا" منذ اختراع المطبعة وصولا إلى ثورة وسائل الإعلام. فهل يعني ذلك أن الفيلسوف مضطر تجنبا لتهمة النخبوية لعقد مصالحة بين الحقيقة كما ينشدها والرأي الذي طالما عمل على ازدرائه وتسفيهه؟ 
  
المحور الثاني: معايير الحقيقة 

طرح الإشكال
المعيار لغة هو المكيال أو وحدة أو مرجع القياس، نقول "عاير الميزان" إذا قايسه وامتحنه بغيره لمعرفة صحته، وعيار الشيء ما جعل قياسا ونظاما له. ونستعملها هنا بمعنى الشرط أو العلامة المميزة، فيكون التساؤل عن معيار الحقيقة تساؤلا عن العلامة التي تسمح بالتعرف على الفكرة الحقيقة وتمييزها أو الشرط الذي إن توفرت في فكرة ما نعتت بالحقيقة 
لايتعلق الأمر هنا بالبحث عن معيار الحقيقة؟ بل بالبحث في إمكانية الحديث عن معيار بصيغة المفرد أو عن معيار كوني: أمام تعدد مواضيع الفكر الإنساني، ما وجاهة التساؤل عن معيار الحقيقة ؟ 

معالجة الإشكال

1- محاولة لتحديد معيار كوني : الوضوح والتميز
  
عندما ينخرط المرء في مغامرة الشك الشامل وفي عملية مسح الطاولة، لابد له من معيار أو علامة يهتدي بها إلى بر الحقيقة من جديد حسب التعبير المجازي لهيغل. ولما كان هدف الفلسفة حسب ديكارت هو كشف المبادئ الأولى التي تستنبط منها كل معرفة ممكنة، وجب وضع معيار شامل لفحص حقيقة هذه المبادئ المؤسسة وما يستنبط منها
لننظر في الكوجيطو مثلا: لا يمثل الكوجيطو الحقيقة الأولى في النسق الديكارتي فحسب، بل يقدم لنا نموذج الحقيقة بامتياز: فهو حقيقة بسيطة واضحة استخرجها الفكر من ذاته. لذلك يشترط في جميع الحقائق أن تكون حقائقا أولية بسيطة يدركها الفكر بالحدس بكل وضوح وتميز أو حقائقا مركبة مشتقة منها عن طريق الإستنباط. وبعبارة أخرى، فالحقائق إما موضوع حدس إذا كانت أفكارا ومعان عقلية بسيطة، بديهية وفطرية يدركها العقل مباشرة؛ أو موضوع استنباط إذا كانت أفكارا وقضايا مركبة ومشتقة. وفي جميع الأحوال فالحقيقة صفة ذاتية للفكرة ولا تخرج عن دائرة الفكر وكأن الأفكار الحقيقية تحمل في ذاتها دليل حقيقتها، لذلك يقول اسبينوزا : " الحقيقة معيار ذاتها كالنور يعرف بذاته وبه يعرف الظلام " ولعل ذلك صادق بالخصوص بالنسبة لحقائق الرياضيات حيث لا يهتم الفكر إلا بالتطابق مع ذاته أي احترام مبادئه ومعاييره 

2- لاوجود لمعيار كوني إلا بالنسبة للحقائق الصورية 
بخلاف ديكارت واسبينوزا اللذين اعتقدا في وجود معيار كوني للحقيقة بصفة عامة، لا يمكن حسب كانط الحديث عن معيار كوني للحقيقة إلا بصدد الحقائق الصورية، فمادامت المعرفة تتطلب مادة وصورة: حدوسا حسية ومقولات عقلية، فإن الأحكام التي تتضمن حدوسا حسية وهي الأحكام التركيبية لا يمكن معرفة حقيقتها بمجرد تحليل مكوناتها أو النظر فيها بذاتها، لابد أن نتأكد من مطابقتها لموضوعها وهو مادتها. وهكذا وبتأمل القضايا الثلاث التالية "السماء غائمة ، " الوقت متأخر" ، " جميع المعادن تتمدد بالحرارة" نجد ثلاث أحكام لكل منها موضوع وفي كل مرة ينبغي فحص الموضوع/الواقع للتأكد من مطابقة الحكم له . والمواضيع تتعدد إلى ما لانهاية، لذلك يستحيل العثور على معيار كوني شامل للحقائق المادية أو لنقل للأحكام التركيبية
لننظر الآن في الحقائق الرياضيات والمنطق : لا يتضمن هذان العلمان أحكاما متعلقة بالعالم الخارجي، ولذلك يكفي لفحص صدق أحكامهما النظر في عدم تناقضها مع قواعد العقل والاستدلال أو المنطق أي في صحة صورتهما .غير أن المنطق لا يستطيع أن يذهب بعيدا : فما من محك بوسعه أن يتيح للمنطق كشف الخطأ حين يتعلق الأمر بمادة المعرفة وليس بصورتها 
  
المحور الثالث: قيمة الحقيقة 
  
طرح الإشكال
قيمة الشيء هي تلك الصفة التي تجعله موضع تقدير أو اهتمام أو رغبة او احترام. وعلى هذا الأساس نصوغ إشكالية قيمة الحقيقة على النحو التالي: لماذا نطلب الحقيقة ونرغب فيها ؟ مالذي يجعل الحقيقة محط نقاش وجدال وادعاء؟ هل تطلب الحقيقة لذاتها أم كوسيلة لنيل غايات تتجاوزها؟ هل تتمتع الحقيقة بقيمة أخلاقية أم بمجرد قيم أداتية 

معالجة الإشكال

1- القيمة الأداتية للحقيقة: نموذج التصور البراغماتي
  
يتساءل وليام جيمس (1842-1910) عن وظيفة الحقيقة وعن الغاية من امتلاك أفكار صحيحة ويجيب بكل بساطة: أن امتلاك الحقيقة ليس غاية في حد ذاته بل مجرد وسيلة يتوصل بها إلى إشباع حاجات حيوية، إنه يكافىء امتلاك أدوات ثمينة للعمل. وبعبارة أوجز: الحقيقى هو المفيد 
ذلك هو التصور البراجماتي لقيمة الحقيقة، حيث يتوقف صدق القضية على قدرتها على تمكيننا من تناول الواقع ذهنيا أو عمليا وتوجيهنا بنجاح نحو الإستفادة من وجودنا، ونحن كما يقول برغسون نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما نخترع الأجهزة الصناعية لتسخير القوى الطبيعية. إن الحقائق ليست أكثر من مخترعات نافعة ووسائل مفيدة في تصور الأشياء واستخدامها؛ بل إن الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859-1952) يرى في نشأة التفكير العقلي عند النوع البشري استجابة لدواع عملية براغماتية وهي الرغبة في الحياة والبقاء، لأنه يسمح للإنسان بصنع شيء أوإنجاز فعل على نحو أفضل مما لو اعتمد على الغريزة والإندفاع وحدهما. وعليه، يعلن ديوي أن الفكرة التي لا تستهدف عملا يمكن إنجازه ليست فكرة بل ليست شيئا على الإطلاق إلا أن تكون وهما في ذهن صاحبها. وإذن، فليس للحقيقة من قيمة مطلقة، بل مجرد قيمة وظيفية عملية ونسبية بالضرورة
  
2- الحقيقة كقيمة أخلاقية مطلقة: سقراط، كانط
  
ولكن ألا نسقط مرة أخرى في القول بتعدد الحقائق بتعدد وتعارض المنافع الفردية؟ ألا تنتهي البراغماتية إلى تصور لاأخلاقي تبرر فيه الغاية الوسيلة، مادام الصواب و الخطأ صفتان مؤقتتان متغيرتان ترتبطان بالنافع والضار أكثر من ارتباطهما بمبادئ عامة مجردة، ومادام أن الحقيقة لاتمثل غاية في حد ذاتها، بل مجرد وسيلة وأداة
على العكس من التصور البرغماتي، تقدم لنا سيرة سقراط وفلسفته تصور أخلاقيا للحقيقة. فلم تكن غاية التفلسف عند سقراط تعلم المهارة الجدلية أو الحذق أو تكديس المعارف في الذهن، بل تدريب النفس على اكتساب الفضيلة، وبذلك تتطابق الحقيقة والكمال الأخلاقي، لقد كانت الحقيقة غاية في حد ذاتها، تعاش بصفة شخصية كما لاحظ كيركجارد، ولم يكتف سقراط بأن عاش الحقيقة فحسب، بل مات من أجلها! بمعنى ألا شيء مقدم على الحقيقة، بما في ذلك حياة المرء نفسها
نجد نفس القيمة المطلقة اللامشروطة عند كانط حيث تتحول الحقيقة أو بالأحرى قول الحقيقة والصدق إلى واجب أخلاقي في ذاته، واجب مطلق غير مشروط ولايعرف الاستثناءات بغض النظر عن الظروف والملابسات حتى أنه يرفض حجة بنيامين كونسطان القائلة بأن قول الحقيقة ليس واجبا إلا نحو من لهم الحق أو يستحقون معرفة الحقيقة. ومادام كانط يقيس أخلاقية الفعل بمدى قدرتنا على تعميمه لجعله قانونا كونيا، فإن شرعنة الكذب تعني تعميمه أي تجريد التصريحات أو الأقوال من أية مصداقية وتجعل جميع الحقوق المؤسسة على العقود والوعود باطلة ولاغية وهذا ظلم وجور في حق الإنسانية جمعاء
ماذا عنا نحن؟ 
غالبا ما تتعامل الذات مع الحقيقة بشكل براغماتي في أغلب مواقف الحياة، لكنها تطالب الغير بالتعامل مع الحقيقة.