الشخص والهوية الشخصية
I-الشخص والهوية الشخصية
استشكالات أولية:
رغم تعدد وتنوع بل وتعارض الحالات النفسية التي يمر منها الشخص طيلة حياته، فإن كل واحد منا يحيل باستمرار إلى نفسه بضمير "أنا" بوصفه وحدة وهوية تظل مطابقة لذاتها على الدوام. غير ان هذه الوحدة التي تبدو بديهية تطرح مع ذلك أسئلة عديدة
بل إن البديهي يشكل الموضوع الأثير والمفضل للفكر الفلسفي. ويمكن القول أن الفيلسوف يصادف إشكالية الوحدة المزعومة للهوية الشخصية في معرض بحثه في الماهيات والجواهر. يتساءل الفيلسوف: إذا كان لكل شيء ماهية تخصه، بها يتميز عن غيره، فهل هناك ماهية تخص الفرد، بها يتميز عن غيره بشكل مطلق؟ خصوصا إذا علمنا أنه ما من صفة فيه، جسمية او نفسية، إلا ويشاطره التخلق بها عدد قليل أو كثير من الأفراد؛ وإذا عرضنا الشخص على محك الزمن والتاريخ، فهل هناك جوهر يظل ثابتا رغم تغيرات الجسم وأحوال النفس وانفعالاتها؟ وهل هذا الجوهر كيان ميتافيزيقي مكتمل التكوين منذ البدأ، أم أنها سيرورة سيكلوجية تجد سندها المادي في الذاكرة، وعملية تطورية تنشأ تدريجيا بفضل تفاعل الفرد مع الغير؟.
أ-ثبات الأنا واستمراريته في الزمان:
موقف ديكارت: التصور الجوهراني الماهوي للهوية الشخصية
نلاحظ أن الفرد يستطيع التفكير في الموجودات الماثلة أمام حواسه أو المستحضرة صورتها عبر المخيلة، ولكنه يستطيع أيضا التفكير في ذاته ، في نفسه هذه التي تفكر!!
يسمى هذا التفكير وعيا وهو نفس الوعي الذي اعتمدعليه ديكارت في " الكوجيطو" وخصوصا وعي الذات بفعل التفكير الذي تنجزه في لحظة الشك أي الوعي بالطبيعة المفكرة للذات التي تقابل عند ديكارت طبيعة الإمتداد المميزة للجسم.
تساءل ديكارت في التأمل الثاني: "أي شيءأنا إذن؟ " وأجاب: " أنا شيء مفكر"
ولكن هل وراء أفعال الشك والتذكر والإثبات والنفي والتخيل والإرادة...هل وراءها جوهر قائم بذاته؟
يجيب ديكارت بنعم : إنها النفس، جوهر خاصيته الأساسية التفكير، أي أن للكائن البشري طبيعة خصائصها هي أفعال التفكير من شك وتخيل وإحساس ...وهي مايشكل الهوية الشخصية للكائن البشري، بل إنها صفته الأكثر يقينية، والأكثر صمودا أمام أقوى عوامل الشك
موقف جون لوك:نقد التصور الجوهراني الماهوي: ليست الهوية الشخصية سوى ذلك الوعي أو المعرفة المصاحبة لإحساساتنا
يرى "جون لوك" أن مايجعل الشخص " هو نفسه" عبر أمكنة وأزمنة مختلفة، هو ذلك الوعي أو المعرفة التي تصاحب مختلف أفعاله وحالاته الشعورية من شم وتذوق وسمع وإحساس وإرادة، تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية، مما يعطي لهذا الوعي استمرارية في الزمان
"إذن فلوك" و "ديكارت" مجمعان بأن الشخص هو ذلك الكائن الذي يحس ويتذكر و -يضيف التجريبي لوك- يشم ويتذوق!
ولكنهما يختلفان فيما يخص وجود جوهر قائم بذاته يسند هذا الوعي وهذه الاستمرارية التي يستشعرها الفرد؛، والواقع أن " الجوهر المفكر" -من وجهة نظر المحاكمة الحسية- كينونة ميتافيزيقية لايسع لوك قبولها انسجاما مع نزعته التجريبية التي لاتقر لشيء بصفة الواقعية والحقيقة مالم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس،
وباختصار فالهوية الشخصية تكمن في فعل الوعي، وعندما يتعلق الأمربالماضي يصبح الوعي ذاكرة بكل بساطة، وكل هذا لكي يتجنب لوك القول بوجود جوهر مفكر، أي أن الهوية لاتقوم في أي جوهر مادي كان أو عقلي، ولاتستمر إلا مادام هذا الوعي مستمرا
موقف دافيد هيوم: النقد الجذري للتصور الديكارتي الماهوي
دافيد هيوم فيلسوف تجريبي، لايعترف بغير الانطباعات الحسية مصدرا أولا للأفكار، وعليه فلكي تكون فكرة ما واقعية، فلابد لها أن تشتق من انطباع حسي ما، والحال أن فكرة "الأنا" أو "الشخص" ليست انطباعا حسيا مفردا، بل هي ماتنسب إليه مختلف الانطباعات. وإذا ما وجد انطباع حسي مولد لفكرة "الأنا" فلابد أن يتصف هذا الانطباع بنفس صفات الأنا وهي الثبات والاستمرارية طيلة حياتنا، والحال أنه لاوجود لانطباع مستمر وثابت: إن الألم واللذة، الفرح والحزن، الأهواء والاحساسات...، حالات شعورية تتعاقب ولاتوجد أبدا متزامنة أومجتمعة. وعليه ففكرة الأنا لايمكن ان تتولد عن هذه الانطباعات ولاعن أي إنطباع آخر، ومن ثم فلا وجود لمثل هذه الفكرة واقعيا، ومن باب أولى ينبغي الامتناع عن أي حديث عن الهوية الشخصية كجوهر قائم بذاته.
ب- الذاكرة والهوية الشخصية
بغض النظر عما إذا كانت الهوية جوهرا قائما بذاته أو تعاقبا لحالات شعورية متباينة، فإن الهوية ليست كيانا ميتافيزيقيا مكتمل التكوين منذ البدأ، إنها سيرورة سيكلوجية تجد سندها المادي في الذاكرة، وعملية تطورية تنشأ تدريجيا بفضل تفاعل الفرد مع الغير
سبق لــ ابن سينا أن لاحظ، في هذا الإطار، بأن فعل التذكر هو الذي يمنح الفرد شعورا بهويته وأناه وبثباتها.ويتجلى هذا واضحا في شعور الفرد داخلياً وعبر حياته باستمرار وحدة شخصيته وهويتها وثباتها ضمن الظروف المتعددة التي تمر بها، كما يظهر بوضوح في وحدة الخبرة التي يمر بها في الحاضر واستمرار اتصالها مع الخبرة الماضية التي كان يمر بها.
إذا كانت الذاكرة هي مايعطي لشعور الشخص بأناه وبهويته مادتهما الخام، فإن امتداد هذه الهوية في الزمان، كما يلاحظ جون لوك، مرهون باتساع أو تقلص مدى الذكريات التي يستطيع الفكر أن يطالها الآن: وبعبارة أخرى إنني الآن هو نفسه الذي كان ماضيا وصاحب هذا الفعل الماضي هو نفس الشخص الذي يستحضره الآن في ذاكرته.
لهذا السبب، وعندما يتساءل برغسون عن ماهية الوعي المصاحب لجميع عمليات تفكيرنا، يجيب ببساطة: إن الوعي ذاكرة، يوجد بوجودها ويتلف بتلفها
ومن الجدير بالذكر أن الوعي بالذات على هذا النحو الأرقى ليس مقدرة غريزية او إشراقا فجائيا، بل هو مسلسل تدريجي بطيء يمر أولا عبر إدراك وحدة الجسم الذي ينفصل به الكائن عما عداه وعبر العلاقة مع الغير.
II-الشخص بوصفه قيمة
استشكالات أولية:
مالذي يؤسس البعد القيمي-الأخلاقي للشخص؟ وهل يمكن فلسفيا تبرير الاحترام والكرامة الواجبة بشكل مطلق للشخص البشري ؟ وما علاقة ذلك بمسؤوليته والتزامه كذات عاقلة وحرة تنسب إليها مسؤولية افعالها ؟
يستفاد من المحورين السابقين أن الفرد وبشكل مجرد سابق على كل تعيين - أي وقبل أن يتحدد بطول قامته أو لون عينيه او مزاجه أو ثروته- هو ذات مفكرة، عاقلة، واعية قوامها الأنا الذي يمثل جوهرها البسيط الثابت ، وذلك بغض النظر عن الاختلاف القائم بين الفلاسفة حول طبيعة هذا الأنا وعلاقته بالجسد والانطباعات الحسية والذاكرة...
ولكن مافائدة هذا التجريد النظري على المستوى العملي؟ هل يمكن أن نرتب عليه نتائج أخلاقية ملموسة؟
موقف كانط:العقل أساس قيمة الشخص وكرامته
انطلاقا من هذا التجريد، ذهب كانط بأن الإنسان هو أكثر من مجرد معطى طبيعي، إنه ذات لعقل عملي أخلاقي يستمد منه كرامة أي قيمة داخلية مطلقة تتجاوز كل تقويم أو سعر.إن قدرته كذات أخلاقية على أن يشرع لنفسه مبادئ يلتزم بها بمحض إرادته، هي ما يعطيه الحق في إلزام الآخرين باحترامه أي التصرف وفق هذه المبادئ. ومادام هذا العقل الأخلاقي ومقتضياته كونيا، فإن الأنسانية جمعاء تجثم بداخل كل فرد مما يستوجب احترامه ومعاملته كغاية لاكوسيلة والنظر إليه كما لو كان عينة تختزل الإنسانية جمعاء. وهذا الاحترام الواجب له من طرف الغير لاينفصل عن ذلك الاحترام الذي يجب للإنسان تجاه نفسه،إذ لا ينبغي له أن يتخلى عن كرامته، وهو ما يعني أن يحافظ على الوعي بالخاصية السامية لتكوينه الأخلاقي الذي يدخل ضمن مفهوم الفضيلة، .
لقد كتب كانط هذه الأفكار في "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" في القرن الثامن عشر .وصحيح أن القرن العشرين قد شهد تحسنا كبيرا للشرط البشري مقارنة مع قرن الأنوار: إلغاء الرق، التخفيف من الميز ضد النساء...، بيد أنه عرف أيضا أهوال حربين عالميتين جسدتا واقعيا فكرة الدمار الشامل، إنضافت إليهما حروب محلية شهدت أبشع أنواع التطهير العرقي ومعسكرات الاعتقال... مما جعل التأمل الفلسفي، في القرن العشرين يعاود مجددا طرح السؤال حول حرمة الكائن البشري وسلامته الجسدية وبالخصوص حقه في عدم التعرض للأذى، "
موقف طوم ريغان:قيمة الشخص نابعة من كونه كائنا حيا حاسا
تنتمي فلسفة طوم ريغان إلى التقليد الكانطي، لكن في حين يؤسس كانط القيمة المطلقة التي نعزوها إلى الكائنات البشرية على خاصية العقل، وبالضبط العقل الأخلاقي العملي، التي تتمتع بها هذه الكائنات،بما يجعل منها ذواتا أخلاقية، فإن طوم ريغان يعتبر هذا التأسيس غير كاف، وحجته في ذلك أننا ملزمون باحترام القيمة المطلقة لكائنات بشرية غير عاقلة مثل الأطفال وكذا الذين يعانون من عاهات عقلية جسيمة
وعليه فإن الخاصية الحاسمة والمشتركة بين الكائنات البشرية ليست هي العقل، بل كونهم كائنات حاسة واعية أي كائنات حية تستشعر حياتها، بما لديها من معتقدات وتوقعات ورغبات ومشاعر مندمجة ضمن وحدة سيكلوجية مستمرة في الماضي عبر التذكر ومنفتحة على المستقبل من خلال الرغبة والتوقع...، مما يجعل حياتها واقعة يعنيها أمرها، بمعنى ان مايحدث لها، من مسرة تنشدها أو تعاسة تتجنبها، يعنيها بالدرجة الأولى بغض النظر عما إذا كان يعني شخصا آخر أم لا "
ويمضي توم ريغان بهذا المبدأ إلى مداه الأقصى فبخلص إلى أن جميع المخلوقات التي يمكنها أن تكون «قابلة للحياة»، أي مواضيع لوجود يمكن أن يتحول للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إليها، تمتلك قيمة أصلية في ذاتها وتستحق أن تحترم مصالحها في عيش حياة أفضل..
إذا كان تصور طوم ريغان يتجاوز بعض مفارقات التصور الكانطي، فإنه يثير مفارقات لاتقل عنها إحراجا لأن معيار "الذات الحية التي تستشعر حياتها" يلزمنا بإضفاء قيمة أصيلة مطلقة ليس فقط على الكائنات البشرية، بل وحتى الحيوانات ووبالخصوص الثدييات التي سنصبح مطالبين بمعاملتها كغاية لا كمجرد وسيلة!
III-الشخص بين الضرورة والحتمية
استشكالات أولية:
يبدو أن مدار الحديث عن مفهوم الشخص - كذات عاقلة وحرة تنسب إليها مسؤولية افعالها - ينحصر في قضيتين: الكرامة والمسؤولية. يشير المفهوم الأول إلى مايحق للمرء النمتع به بوصفه شخصا، بينما يشير المفهوم الثاني إلى ماهو ملزم او ملتزم به أو مطالب به بوصفه شخصا أيضا.
بحثنا المفهوم الأول في المحور السابق. إذا اقتصرنا الآن على المفهوم الثاني، فمن اليسير أن نتصور بأن المسؤولية لاتنفصل عن صفة أخرى وهي الحرية التي يطالب بها الفرد كجزء من كرامته، وهذه المرة أيضا، بوصفه شخصا.
لن نتوقف عند الحريات السياسية لأن المانع دونها جلي واضح، وهو النظام السياسي ومختلف أشكال التضييق والقمع التي يمارسها على حرية الأفراد في التجمع والتعبير، سيقتصر بحثنا فقط على الحرية التي يحاسب الشخص بموجبها أخلاقيا من قبل الغير أو من قبل ضميره الشخصي (تأنيب الضمير) ؛أو تلك الحرية التي تترتب عنها المسؤولية المدنية أو الجنائية والتي بموجبها يحاسب المرء قانونيا أمام العدالة، ذلك أن القاضي ملزم بإثبات خلو الفعل من الإكراه كشرط لإثبات المسؤولية أي توفر عنصر الحرية والاختيار، وبناءا عليه يعرض المتهم نفسه للعقوبات المقررة
هل هذه الحرية المفترضة موهومة، لأن الشخص يرزح تحت وطأة مجموعة من الإكراهات والإشراطات التي لايطالها وعيه أحيانا، أم أن الشخص البشري ليس موضوعا ولاتجوز في حقه مقولات العلم وعلى رأسها الحتمية؟
موقف العلوم الإنسانية: تتمثل الضرورة في خضوع الشخص لحتميات تتجاوز وعيه وتلغي حريته
في المحورين السابقين تمت مقاربة مفهوم الشخص من زاوية الوعي وبشكل مجرد من كل تعيين، بيد أن الكائن الشري بنية سيكوفيزيولوجية وكائن سوسيوثقافي، فلا يسعه الإنفلات من قوانين الفيزيولوجيا والمحددات النفسية والإكراهات السوسيوثقافية.
إن تجاهل هذه الشروط هي مايجعل كل إنسان يعتقد أنه السيد في مملكة نفسه، وأنه من اختار بمحض إرادته بعض ملامح شخصيته،
هناك مذاهب فلسفية كثيرة قامت على فكرة الحتمية الكونية الشاملة فلم تر في الشعور بالحرية سوى وهم ناتج عن جهل بسلسلة العلل والأسباب، وكما يقول اسبينوزا، فإنا الناس يعوون حقا رغباتهم لكنهم يجهلون العلل الخفية التي تدفعهم إلى الرغبة في هذا الموضوع او ذاك. وبيدو أن العلوم الإنسانية المعاصرة تقدم دلائل إضافية داعمة للتصور الحتمي السبينوزي،: فالتحليل النفسي مثلا يرى البناء النفسي للشخصية كنتيجة حتمية لخبرات مرحلة الطفولة، كما أن الكثير من الأنشطة الإنسانية تحركها دوافع الهو اللاشعورية ذات الطبيعة الجنسية أو العدوانية. هذا الهو الذي قال عنه "نيتشه": وراء أفكارك وشعورك يختفي سيد مجهول يريك السبيل، إسمه الهو. في جسمك يسكن، بل هو جسمك، وصوابه أصوب من صواب حكمتك"، بل إن بول هودار يذهب إلى حد القول بأن: " كلام الإنسان كلام مهموس له به من طرف الهو، الذي يعبر عن نفسه في الإنسان عندما يحاول الإنسان أن يعبر عن ذاته !!"
أما بالنسبة لعلماء الإجتماع والأنثربولوجيا، فإن طبقات مهمة في الشخصية لاتعدو أن تكون سوى انعكاس للشخصية الأساسية للمجتمع أو الشخصية الوظيفية لجماعة الإنتماء، بحيث يمكن القول مع دوركايم أنه كلما تكلم الفرد أو حكم ، فالمجتمع هو الذي يتكلم أو يحكم من خلاله. وإذا كانت التنشئة الإجتماعية تزود الفرد بعناصر من ثقافة المجتمع، فأن هذه الثقافة بدورها حسب التحليل الماركسي ليست سوى انعكاس للبنية التحتية المستقلة عن وعي الذوات: لأن الوجود المادي هو الذي يحدد الوعي لاالعكس.
حاصل الكلام هو اختفاء الإنسان أو موته كما أعلنت البنيوية، لأن البنيات النفسية الإجتماعية اللغوية... هي التي تفعل وليس الذات أو الفرد. هل يمكن بعد كل هذا الحديث عن الإنسان كما نتحدث عن ذات أي عن كائن قادر على القيام بعمل إرادي؟ هل للسؤال "من أنا " بعد من قيمة؟ !!
موقف سارتر ومونييه:إن كون الكائن البشري شخصا هو بالضبط مايسمح له بأن يبارح مملكة الضرورة؟
رغم كل ماذكر فإن الإنسان لازال يقنع نفسه بأن له شيئا يفعله، شيئا يبقى عليه أن يفعله. إن النظر إلى الشخص باعتباره ذاتا ووعيا يمكننا من القول بأن وعي الإنسان بالحتميات الشارطة يمثل خطوة أولى على طريق التحرر من تأثيرها وإشراطها المطلق، بلقد اشتقت الوجودية مقولة " أسبقية الوجود على الماهية " من خاصية الوعي،، لأن الإنسان ليس وجودا في ذاته كالأشياء، بل وجودا لذاته: يوجد ويعي وجوده، مما يجعل وجوده تركيبة لانهائية من الإختيارات والإمكانيات؛ وعلى عكس الطاولة أو الشبل اللذان يتحدد نمط وجودهما بشكل خطي انطلاقا من ماهيتهما القبلية، فإن الإنسان مفتقر إلى مثل هذه الماهية التي قد تسمح بتعريفه أو الحديث عن شخصيته على نحو قبلي مسبق. صحيح أن الفرد يحيا على الدوام لا في المطلق، بل في وضعية محددة اجتماعيا وتاريخيا، لكن ردود أفعاله واختياراته لاتحددها هذه الشروط الموضوعية وحدها، بل وأيضا المعنى الذاتي الذي يفهم بموجبه هذه الشروط والأوضاع مما يفسح مجالا واسعا للحرية وانفتاح الممكنات. من هنا نفهم تصريح سارتر بأن الإنسان مشروع في سماء الممكنات، محكوم عليه بأن يكون حرا، وبان الإنسان ليس شيئا آخر غير مايصنع بتفسه.
ونستطيع استثمار أطروحة سارتر التي أتينا على ذكرها للقول بأن الإنسان ليس آلة إلكترونية، حتى لو أضفنا لها صفات الذكاء والصنع المتقن كما يقول إيمانويل مونييه الذي يرفض كل اختزال للشخص إلى شيء أو موضوع لأن البشر ليسوا صنفا من أشجار متحركة أو جنسا من حيوانات ذكية بمعنى أن كل المعرفة الوضعية التي راكمتهاالعلوم الإنسانية لا يمكنها أن تستنفذ حقيقة الشخص الذي يظل أكثر من مجرد شخصية أي أكثر من مجرد نظام سيكوفيزيولولجي وسوسيوثقافي
نلاحظ أن وجودية سارتر وشخصانية مونييه يتقاطعان في رفض الخطاطة التبسيطية التي تجعل الشخص والظاهرة الإنسانية عموما ظاهرة خاضعة على غرار الظواهر الطبيعية لمقولات العلم الموضوعي وعلى رأسها الحتمية، إن الإنسان بالنسبة لفلاسفة الحرية تجربة ذاتية منغرسة في العالم لاتتوقف عن إبداع نفسها ولكن تقول العلوم الإنسانية: إنه لايبدع ولايعبر إلا عن مجمل الشروط التي يتلقى!
خلاصة عامة للدرس:
إذا كان لابد من خلاصة تجمع أطراف موضوع متشعب كموضوع "الشخص"، فسنقول بأن الشخص، تلك الوحدة الصورية، ذلك الكائن المفكر العاقل والواعي...إلخ ينطوي في المستوى المحسوس على شخصية هي حصيلة تفاعل بين عوامل باطنية وأخرى متعلقة بالمحيط الخارجي، إنها ذلك الشكل الخاص من التنظيم الذي تخضع له البنيات الجسمية، النفسية والإجتماعية. صحيح أن هذا التنظيم يخضع لعوامل ومحددات موضوعية كثيرة، لكن ذلك لايلغي دور الشخص في بناء شخصيته. وإذا ما بدا موضوع الشخص إشكاليا متعدد الأبعاد، فماذلك إلا لأن دراسة الشخص ليست إلا إسما آخر لدراسة الإنسان بكل تعقده وغموضه.
الغير
محاور الدرس:
دلالات: الغير ذلك الأنا الذي ليس أنا
إشكالية وجود الغير
إشكالية معرفة الغير
وجوه الغير: الصداقة والغرابة
دلالات: الغير ذلك الأنا الذي ليس أنا
الإنسان كائن اجتماعي، واجتماعيته هذه تعني وتقتضي التفاعل مع الآخرين أي مع الغير. وإذا كان تفاعلي مع الأشياء وتمييز نفسي عنها لايكاد يطرح مشكلة، فالأمر خلاف ذلك فيما يخص الغير، لأنه ببساطة ذلك الشبيه المختلف : إنه شبيهي مادام يشاطرني كثيرا من الصفات العامة (الفيزيولوجية ،النفسية، السلوكية...)، لكنه لايفتأ يؤكد – ضمن هذا التشابه – اختلافه عني في مؤهلاته واختياراته ورغباته ومشاريعه ...
تقع هذه الإزدواجية في صلب أغلب الإشكالات الفلسفية للغير، فلقد عرفه سارتر: بأنه "الأخر، الأنا الذي ليس أنا " أي ذلك الوعي وتلك الذات المباينة، المنفصلة عن ذاتي ووعيي؟ كيف يمكن لذاتي أن تذرك وجود الذوات الأخرى؟ هل يمكن والحالة هذه إثبات وجود مثل هذه الذات (المفكرة حتما) بواسطة الأسلوب الديكارتي الشهير مثلا؟ ماعلاقة وجوده بوجودي؟ هل يرتبط ويتوفق وعيي بوجودي على وعيي بوجود الغير أم ينفصل ويستغني عنه؟
لنطرح قضية الغير بتجريد أقل: كيف يتبدى الغير لذاتي؟ كيف أعرف الغير؟ وهل هذه المعرفة ممكنة أصلا؟ إذا انطلقت من افتراض معرفتي لذاتي ولحالاتي النفسية الشعورية بواسطة إدراك ووعي باطني مباشر، فكيف السبيل لمعرفة الغير؟ ألا تحيله عملية المعرفة إلى موضوع وتنفيه كذات؟
ولنطرح القضية بتجريد أقل مما سبق: كيف أقرأ علاقاتي المختلفة بالغير؟ ألا تدلني هذه العلاقات من جهة، على امكانية التواصل والتماهي معه، كما في حالة الصداقة والصديق ؟ وعلى حقيقة الإنفصال والإختلاف الجذري واللاتواصل واللاتفاهم كما في حالةالغريب من جهة ثانية؟ وعليه ألا يثير الغير بسبب تماثله ومغايرته مشاعر الإحترام والإعتراف وأيضا الإقصاء والنفي؟ وباختصار:كيف أتعرف على غيرية الغير وكيف اقرؤها؟ !
إشكالية وجود الغير
عرف سارتر الغير: بأنه "الأخر، الأنا الذي ليس أنا " أي ذلك الوعي وتلك الذات المباينة، المنفصلة عن ذاتي ووعيي؟ كيف يمكن لذاتي أن تذرك وجود الذوات الأخرى؟ هل يمكن والحالة هذه إثبات وجود مثل هذه الذات (المفكرة حتما) بواسطة الأسلوب الديكارتي الشهير مثلا؟ ماعلاقة وجوده بوجودي؟ هل يرتبط ويتوفق وعيي بوجودي على وعيي بوجود الغير أم ينفصل ويستغني عنه؟
تنبيه: يمكن استثمار معطيات هذاالمحور لمعالجة قضايا واشكاليات عديدة: الغير كأنا آخر- مفهوم الوعي أو الذات المفكرة- علاقة أوضرورة وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا- الوجود والإعتراف بالوجود- مكانة الغير في عالم الذات ...
يلاحظ أن وجود الغير يمثل بالنسبة للحس المشترك قضية بديهية مسلما بها. وكلما تماهينا مع الحس المشترك بداخلنا وافتقدنا الخاصية النقدية الإستفزازية للتفكير الفلسفي ،إلا وصعب علينا إدراك جوهر اشكالية وجود الغير ومكامن الصعوبة والتعقيد بداخلها. وفي الواقع فهذه اشكالية حديثة في تاريخ الفلسفة نفسه. وقد طرحت نفسها بحدة انطلاقا من الفلسفة الديكارتية: ذلك أن اكتشاف الذات كمصدر للحقيقة ومرجع للحكم قد فجر – ليس فقط اشكالية وجود العالم والأشياء – بل وإشكالية وجود الذوات الأخرى (الغير) أيضا: من المعروف أن إثبات وجود الذات أو مايعرف بالكوجيطو يأتي تتويجا لمغامرة الشك الشامل. إن الشك هو الحقيقة الأولى التي لانستطيع الشك فيها دون أن نؤكدها،والشك يكشف اذن عن وجود الذات وطبيعتها المفكرة. ولكن بما ان الكوجيطو ترجمة لوعي الذات بنشاطها المفكر وعيا مباشرا بواسطة حدس باطني، فهل يمكن استعمال الكوجيطو في غير ضمير المتكلم واستغلال قوته الإثباتية في إثبات وجود الغير كذات وأنا واعية؟ إن ديكارت وهو ملتزم بالحذر المنهجي وبأن لا يعلن قضية على أنها حق قبل اجتيازها اختبار الشك الصارم، يعلن أنه عندما ينظر من النافذة إلى الأسفل يحكم بأنه يرى أناسا يسيرون في الشارع رغم أنه لايدرك في الحقيقة غير قبعات ومعاطف قد تكون غطاءا لآلات تحركها لوالب !!
نص ديكارت : كيف يمكن لوعيي أن يدرك وجود وعي آخر!؟
لا اعجب كتيرا حين ألاحظ ما في ادرا كي من ضعف وميل يجعلانه عرضة للخطأ من غير وعي مني. ذلك لآن الالفاظ تصدني [عن إدراك الحقيقة]حتى ولو استغنيت عنها وطفقت اجيل هذا كله في ذهني صامتا. العبارات الشائعة المتداولة تكاد تخدعني: فنحن نقول باننا نرى الشمعة ذاتها حين تكون امامنا ولا نقول باننا نحكم» انها هي الشمعة عينها، لأن لها لون وشكل الشمعة ذاتيهما وهكذا نميل عادة إلى الاستنتاج باننا نعرف الشمعة بالعينين وليس بواسطة فحص عقلي. وكذلك لو نظرت بالمصادفة من النافذة وشاهدت رجالا يسيرون في الشارع لقلت عند رؤيتهم بأني ارى رجالا بعينهم ، مثلما قلت اني أرى شمعة بعينها . ولكن هل ارى في الواقع من النافذة سوى قبعات ومعاطف قد تكون غطاءا لآت صناعية تحركها لوالب ؟ ومع ذلك احكم انهم أناس !اذن فأنا ادرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت احسب أنني اراه بعيني
المصدر: ديكارت ، ـاملات ميتافيزيقية، الترجمة العربية ، كمال الحاج ، عويدات 1982 ص 82 (بتصرف)
وبالمثل فإن الإعلان عن وجود الغير كذات لايمكن النظر إليه إلا كاستدلال عقلي قائم على ملاحظة التماثل في الصفات بين الأنا والغير كالكلام والسلوك التلقائي الذكي..، ثم الإستنتاج بأنها تمظهرات دالة على وجود ذات مفكرة واعية يستحيل إدراكها مباشرة لأن ذلك مناقض لمعنى الوعي باعتباره حضور الذات إزاء نفسها. ولكن مالمشكلة في مثل هذا الإستدلال؟ على عكس حكم الحدس يظل حكم الإستدلال -ومن ثم وجود الغير- احتماليا مفترضا وجائزا لايبلغ درجة يقين وجود الأنا أفكر. نحن أمام مذهب فلسفي تنتهي نتائجه إلى "وحدانية الذات " التي لاتستطيع أن تجزم يقينا سوى بوجودها الخاص، وذلك بسبب تبنيها لمفهوم الوعي باعتباره تطابق الأنا مع ذاته.
<
لكن هل يمكن حقا لفعل الوعي أن يستغني عن حضور الغير والعلاقة به بشكل من الأشكال؟ هل يمكن لكائن ولموجود وحيد في عزلة انطلوجية مطلقة أن يعي ذاته ويشير إليها بضمير"أنا"؟
يتناول هيغل التركة الديكارتية من زاوية مغايرة: فالوعي ليس كيانا ميتافيزيقيا مجردا ثابتا أو معطى أوليا إنه بالأحرى كيان ينمو ويتطور في علاقته بما عداه من الأشياء (الطبيعية) أولآ ثم الغير(وعي الذات الأخرى) ثانيا. كيف ذلك؟ من المعروف أن المنطق الجدلي عند هيغل يؤكد على مبدأي التناقض والصيرورة التي تتجلّى بوضوح في العملية الثلاثية المستمرة : الأطروحة – النقيض – التركيب؛ وبعبارة أخرى فكل كائن يحمل بالضروة نقيضه كشرط لوجوده ومن ثم فالوعي يحمل بالضرورة نقيضه كعنصر سلب ونفي متمثل في ماسواه. يتخد هذا الأخير شكل الطبيعة أولا: فمن خلال تغييرها وترك آثار عليها واشباع الحاجات البيولوجية، يبدأ الوعي في اكتشاف نفسه و"وعيها" ، لكن هذا الإكتشاف لايتجاوز درجة الإحساس المباشر بالذات التي تظل مع ذلك غارقة ومنغمسة في الطبيعة لكون رغباتها لاتتجاوز الرغبات الطبيعية، لكن هذا يدلنا على كل حال على أهمية"التوسط"في وعي الذات، وبعبارة أخرى لايمكن للوعي أن ينبثق من خلال العلاقة المباشرة للأنا بذاته بل عبر آخر يتوسط بينه وبين ذاته ولن يكون هذا الآخر في المرحلة التالية سوى الغير أو الذات الأخرى التي يتعين أن يكتشف الأنا نفسه فيها من خلال إعترافها به. هكذا ينتقل الأنا من الرغبة في شيء طبيعي إلى الرغبة في رغبة أخرى هي هذا الإعتراف الذي لايمنح بشكل سلمي لأنه إعتراف منشود من الطرفين معا. على ضوء هذا التحليل يقرأ هيغل علاقة أو "جدلية السيد والعبد" باعتبارها أول علاقة إنسانية مدشنة للتاريخ البشري: إنها علاقة فردين يغامران بحياتهما ويسموان فوق الطبيعة بدخولهما في صراع ينشد فيه كل طرف موت الآخر، بيد أن المنتصر في نهاية المطاف يبقي على حياة المنهزم لأن موته لايحقق الإعتراف المنشود. إن السيد والعبد وجهان لعملة واحدة هي وعي الذات: الأول وعي لذاته خالص، والثاني وعي تابع أو " وجود – من – أجل – الغير". صحيح أن علاقة الأنا بالغير لاتتخد دوما هذا الطابع الدراماتيكي، لكن الصراع الضمني أو المعلن يظل خاصيتها المؤسسة. لأن كل علاقة من هذا القبيل هي نشدان للإعتراف أو بالأحرى إنتزاع له.
نص هيغل : جدل الأنا والآخر
يكون وعي الذات (الإنسان) أولا وجودا لذاته بسيطا. وهو اذ يقصي عن ذاته كل ما هو آخر بالنسبة اليه، فانه يكون مساويا أو مطابقا لذاته، وتقوم ماهيته فى كونه أنا. وهو فى وجوده المباشر هذا (إدراكه لذاته كأنا ) شيء فردى. ويكون مإ هو أخر بالنسبة إليه موضوعا ... أي شيئا غير جوهري، متسما بطابع السلب (لكونه لا - أنا). غير أن الآخر البشري هو أيضا وعي للذات (لذاته) هكذا ينبثق فرد أمام فرد، ويقف أمامه وجها لوجه. «وبظهورهما على هذا النحو المباشر ، يكونان في صورة موضوعين اأحدهما بالنسبة للآخر). إنهما شيئان أو وجهان مستقلان... غارقان أو منغمسان في الحياة لازال أحدهما لم يقم تجاه الآخر بحركة التجريد، التي تتمثل في أن يستأصل كل منهما من ذاته كل وجود مباشر ،.. وبعبارة أخرى، ان هذين الوعبين، لم يقدم بعد أحدهما نفسه للآخر بوصفه وجودا لذاته خالصا ، أى وعيا لذاته. كل منهما متييقن من ذاته، وليس متيقنا من الآخر. وهكذا فإن هذا اليقين لا يكتسي بعد طابع الحقيقة
تتمثل عملية تقديم الذات لنفسها (أمام الآخر) بوصفها تجريدا خالصا لوعي الذات، في إظهارها أنها ليست متشبثة بالحياة. وهذه العملية مزدوجة : يقوم بها الآخر كما تقوم بها الذات. وأن يقوم بها الآخر معناه أن كلا منهما يسعى إلى موت الأخر. وأن تقوم بها الذات يعني أنها تخاطر بحياتها الخاصة. يتخد سلوك كل من وعيي الذات (الفردين البشريين المتواجهيين) إذن، بكون كل منهما يثبت ذاته لنفسه، كما يثبتها للآخر بواسطة الصراع من أجل الحياة والموت.إنهما مجبران بالضرورة على الإنخراط في هذا الصراع، لأن على كليهما أن يسمو بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة بالنسبة
لذآتة وبالنسبة إلى الآخر.فالمخاطرة بالحياة هى وحدها التي يتم بواسطتها، الحفاظ على الحرية، وبها وحدها يقدم الدليل على أن وعي الذات ليس (مجردا وجود، وليس موجودا على نمط مباشر مثل نمط وجود الأشياء) ... ولا انغماسا أو تشبثا بالحياة.أن الفرد الذي لم يخاطر بحياته، قد يعترف به كشخص، ولكنه لا يبلغ حقيقة الاعتراف به كوعي لذاته مستقل. كذلك يكون على كل فرد عندما يخاطر بحياته الخاصة أن يسعى إلي موت الآخر. لأن الآخر لم يعد أسمى منه قيمة، وانما تتجلى له ماهيته كأخر يوجد خارجا عن ذاته، وعليه أن يلغي وجوده الخارج عن ذاته.
غير أن هذا الدليل الأعلى (على ارتقاء الفرد من مجرد أنا مباشر إلى وعي للذات معترف به ا الذي يقدم بواسطة الموت، يلغي ... الحقيقة التي كان من المفروض أن تنجم عنه، كما يلغي، في نفس الوقت، اليقين الذاتي بوجه عام ..> يتعلم وعي الذات في هذه التجربة أن الحياة هي بالنسبة إليه شيء جوهري مثل وعي الذات ... عن طريق هذه التجربة يتقابل وعي خالص لذاته من جهة، ووعي ليس وعيا لذاته بكيفية خالصة، من جهة أخرى وإنما هو وعي من أجل وعي آخر، أي أنه..وعي يوجد على نمط وجود الأشياء. هاتان اللحظتان جوهريتان، إنهما لما كانتا غير متساويتين ومتعارضتين... فإنهما بمثابة وجهين متقابلين للوعي : إحداهما لحظة وعي مستقل، تقوم ماهيته في كونه وجودا لذاته، والأخرى لحظة وعي تابع تقوم ماهيته في الحياة والوجود من أجل الآخر، أحدهما سيد والآخر عبد
. هيغل ، فينومينولوجيا الروح، ترجمة جون هيبوليت،أوبييه، ج 1.1977 ص.ص: 158-159
نقلا عن الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة وزارة التربية الوطنية - الطبعة الأولى 1996-1997
صورة للتأمل: الصراع كنمط من أنماط اتباث الوجود من خلال تحدي الآخر وهزيمته وإخضاعه!!
يتقوى الشعور بالانتصار والتفوق لدى المنتصر والشعور بالخضوع لدى المنهزم بسبب حضور أغيار آخرين يشهدون الموقف
كانت المبارزة في اوروبا وسيلة قانونية codifié لحل النزاعات بين الأفراد ورد الاعتبار رغم أنها تكون أحيانا مبارزات مميتة يفقد فيها أحد الطرفين حياته !!
لقد تجاوزت الإنسانية اللحظة التاريخية التي يصفها هيغل في جدلية السيد والعبد، ولكن نمط العلاقة بين الأنا والغير لا يزال هو نفسه. يفترض أننا تجاوزنا حالة الطبيعة بحيث غدت العلاقات بين الأفراد خاضعة لقانون موضوعي، غير أن حاجة االفرد إلى الاجتماع والسلم لاتقل عن حاجته إلى اخضاع الغير وانتزاع اعترافه...
تدفعنا المقاربة الهيغيلية إلى القول بأن وعي الذات يقتضي وعي الغير، وأن الأنا والغير ينبثقان من خلال علاقتهما وليس قبلها. ونضيف تأكيدا لضرورة وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا حالة " الأطفال المتوحشين" الذين لاحظ إتيان مالصون أن بعضهم يشكو من ضعف أو غياب سيرورات الوعي بالذات كعدم التعرف على النفس في المرآة وعدم القدرة على الإحساس بالفخر والخجل... بسبب إفتقادهم طيلة طفولتهم إلى العلاقة مع الغير. إنها إذن علاقة ضرورية في سيرورة نمو الوعي وظهوره. ولنسأل أنفسنا أخيرا: هل يستطيع الواحد منا أن يعتبر نفسه ذكيا أو بليدا، ودودا أو حقودا، جميلا أو ذميما، بطلا أوجبانا... من غير أن نكون قد إستخلصنا ذلك من نظرة الغير أو شهادته؟
إشكالية معرفة الغير
وضعية مشكلة: في الكاريكاتور المقابل، يطلع الرجل ذو السترة السوداء مباشرة على أفكار الرجل المنهمك في القراءة، لاشك أنه لايطلع فقط على السطور التي يتلوها القارئ، بل يطلع أيضا على الانطباعات وردود الأفعال والذكريات والصور الحميمية التي تثيرها في ذهنه السطور المقروءة!! يالها من قدرة سحرية!! لقد أصبح الغير شفافا، ولم تعد هناك حاجة للتعبير أي للصياغة اللغوية للأفكار. ولكن أنى لنا هذه القدرة! لامفر إذن من طرح السؤال: كيف أعرف الغير؟ أي كيف لي أن أنفذ إلى محتويات وعيه وشعوره؟ تلك القلعة المغلقة بإحكام! وهل هذه المعرفة ممكنة أصلا؟ ألا تحيله عملية المعرفة إلى موضوع وتنفيه كذات؟ كما نرى في هذا الكاريكاتور
تنبيه: يمكن استثمار المعطيات اللاحقة لمعالجة إشكالات موازية مثل: التواصل مع الغير، الإعتراف بالغير وإحترامه أو إقصاؤه، الغير والمشاركة الوجدانية، الغير كذات أو كموضوع، الإتصال والإنفصال بين الذوات...
يبدو أن إثبات التلازم الجدلي بين الأنا والغير عند هيغل لايتم إلا من خلال الطابع الصراعي لعلاقتهما، أفلا يحضر هذا الطابع الصراعي أيضا على مستوى العلاقة المعرفية؟ إذا كنت في معرفتي لذاتي أؤكدها من خلال وعيي المباشر بحالاتي النفسية الداخلية، أفلا تعني معرفة الغير تحويله إلى موضوع ومن ثم نفيه كذات؟
تحيل العلاقة المعرفية على ذات وموضوع: ذات تمارس فعل المعرفة مكرسة بذلك حريتها وتلقائيتها وفعاليتها، وموضوع خاضع لشتى العمليات المعرفية كالإدراك والحكم والتصنيف أو حتى الشك والنفي. إنه إذن تحت رحمة الذات أو "الأنا أفكر"مجردا من صفات الذات كالتلقائية والحرية غارقا في العطالة كالأشياء. وهذا ماتؤكه على نحو ملموس تحليلات سارتر لتجربة الخجل الناجمة عن نظرة الغير: فقبل الخجل يتصرف الأنا في تطابق مع ذاته بحرية وتلقائية ،إنه مركز عالمه الداخلي، وما إن يحس الأنا حضور الغير من خلال نظرته،حتى تتجمد حريته وعفويته(التوتر-الإرتباك-الإحساس بالتفاهة ...) وينسحب من مركز عالمه إلى هامشه، وقد تحول إلى موضوع أو شيئ . يقول سارتر:"عندما ينظر إلى الغير فهو يفرض نفسه خارجا عني ليحولني إلى شيء : قادرا على تأويل سلوكي وإعطائه معنى قد لا يكون هو المعنى نفسه الذي أقصده، وبذلك أسقط تحت رحمته وسلطته ... "وذلك لأني أحس أن صورتي كما يراها الأخر مستقلة عني في وجودها كصورتي الفوتوغرافية، ويرجع سارتر الطبيعة التشييئية لعلاقة الأنا بالغير إلى أن هذا الأخير هو "لا- أنا" مما يعني السلب والنفي والإنفصال، هذاالإنفصال الذي تؤكده واقعة الإنفصال الأمبريقي بين جسمينا. وهكذا لايمكن للغير أن يتبدى لي(والعكس صحيح ) سوى كـــ"شيئ في ذاته" ولعل خير ما يلخص التصور السارتري السابق هو عبارته الشهيرة "الجحيم هم الأخرون ". في نفس السياق
نص غاستون بيرجي : الذوات كمونادات أو جزر معزولة عن بعضها
كيف لى الأ أشعر بان هذه الحميمية التى تحمينى و تحدنى هى عائق يحول بصورة نهانية بينى وبين أي تواصل ( مع الفير) ؟ فحين كنت قبل قليل تانها بين الاخرين كاد وجودي ان يتلاشى، و الآن اكتشف لم بمعزل عنهم غبطة الإحساس بالحياة، لكن هذه الغبطة لا يتذوق طعمها احد سواى. حقا ان نفسي هى ملك لى، إلا أننى حبيس داخلها. إن الآخرين لا يستطيعون ولوج وعيى كما لا يمكن لى أن أخلى لهم السبيل للنفاذ إليه حتى لو تمنيت ذلك بكل قوة فأقوالى و حركاتى هي علامات أو إشارات لا تستطيع أن تفعل أكثر من التلميح او الإشارة إلى تجربة أعيشها أنا دون ان يكون فى مقدور من أتوجه إليهم معايشتها
ان آلام الآخرين هى التى تكشف لى اكثر عن آلامى أنا، عما بيننا من انفصال و تباعد لا يقبل التقليص. لا شك اننى استطيع، عندما يتالم صديق لي ان أقوم بافعال ناجعة لمساعدته، و ان أواسيه وان احاول بكل ما اوتيت من رقة و لطف أن أخفف من شدة الالم الذى يمزقه إلا ان المه يظل مع نلك خارجا عنى، و تظل محنته محنة شخصية خاصة به. فقد أتالم مثله و ربما اكثر منه، لكن تألمى يكون دائما مختلفا عن تالمه. و بما ان الإنسان حبيس فى المه، متفرد في سروره فإنه محكوم عليه ألآ يشبع ابدا رغبته فى التواصل مع الغير مع انه لا يستطيع ان يستغنى عن هذا التواصل
غاستون بيرجي، من الشبيه إلى القريب
ورد كنص ضمن: الامتحان الوطني لمادة الفلسفة – الشعبة الأدبية – الدورة الإستدراكية – يوليوز 2003
القائل باستحالة أو على الأقل صعوبة معرفة الغير يندرج تصور غاستون بيرجي حول عزلة كل ذات داخل عالمها الخاص بسبب إستحالة التعبير عن العالم الحميمي للذات، عندما يقول: " إن ما هو خاص به، ما هو حميمي وما يميزني عن الأخرين يشكل أكبر عائق أمام كل محاولة للتواصل مع الغير: فأنا الوحيد الذي أملك روحي، لكني سجينها في نفس الوقت، وحتى عندما أرغب في الخروج منها للتواصل أفشل، لأن حركاتي وكلماتي ليست سوى تلميحات وإشارات إلى ما أحسه لكن الأخر المستمع لا يعيش هذا الإحساس ! إن ألم ومعاناة الأخرين هي التي تكشف عزلة الذوات على بعضها " .
هل يمكن و الحالة هذه أن نعلن إستحالة معرفة الغير وأن نجعل من الذوات جزرا وقلاعا حصينة مغلقة أو" مونادات " بتعبير لايبنز ؟ الواقع أن تحليلات فلسفية عديدة ترى غير ذلك: فهذا ميرلوبونتي يقوم بوصف فينومينولوجي لعملية التواصل ليستدل بها على إمكانية معرفة الغير معتبرا أن العلاقة مع الغير لا تحوله إلى موضوع وتنفيه. وأن النظرة لا تشيؤه إلا إذا كانت نظرة نافية لإنسانيته بإصرار مسبق: أي نظرة تفحص ومراقبة لا نظرة تفهم وتقبل (كنظرة الأم وهي تتابع مشجعة خطوات إبنها الأولى )، وإلا إذا آنسحبت كل ذات إلى طبيعتها المفكرة وتموقعت داخل تعالي الكوجيطو متخدة ما عداها مجرد موضوعات لعملياتها المعرفية. وبالمقابل فإن أبسط تجارب التواصل بعد صمت لا تنقل إلي بعض أفكار الغير وأصواته فحسب، بل وعالمه الذي كان يتبدى لي من قبل متعاليا غريبا منفصلا عن عالمي. إن التواصل يثبت أن الإختلاف والمغايرة بين الذوات ليست من نمط الإختلاف الطبيعي ( كذاك القائم بين شيئين: طاولة وكرسي حيث الهوة و الإنفصال) بل إختلاف إنساني لا يلغي التقاطع ضمن المجال "البينذاتي " المشترك . لهذا السبب لا يتحدث ميرلوبونتي عن المعرفة (connaissance) بل عن الإنبثاق المشترك (co-naissance ).
نص ميرلوبونتي : الغير والتواصل والمجال البينذاتي
يقال إن من الواجب علينا أن نختار أحد اثنين : إما أنا واما الفير. غير أننا نختار أحدهما ضد الآخر، ونحن، بذلك، فؤكدهما معا . ويقال أيضا إن الفير يحولني إلى موضوع وينفيني، وأحوله إلى موضوع وأنفيه. والواقع أن نظرة الغير لا تحولني إلي موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع، إلا إذا انسحب كل منا وقبع داخل طبيعته المفكرة، وجعلنا نظرة بعضنا إلى بعض لا إنسانية، والا إذا شعر كل منا بأن أفعاله، بدلا من أن تتقبل وتفهم، تخضع للملاحظة مثل أفعال حشرة. ذلك ما يحصل مثلا عندما تقع علي نظرة شخص مجهول. غير أنه حتى في هذه الحالة لا يتحول كل منا إلى
موضوع أمام الآخر بفعل نظرة الفير، ولا تولد هذه النظرة الشعور بالضيق، إلا لكونها تحل محل تواصل ممكن. فالإمتناع عن التواصل هو أيضا نمط من التواصل. إن الحرية ذات الأوجه والأشكال المتعددة، والطبيعة المفكرة، والأعماق التي تستباح فيها ، والوجود الخالي من الصفة أو الإسم، إن كل هذا الذي يضع فينا أنا والفير حدودا لكل تعاطف، يجعل التواصل معلقا ، ولكن لا يعدمه. إذا ما ربطتني صلة بشخص مجهول لم ينبس بعد بكلمة، فإنني أستطيع أن أعتقد أنه يعيش في عالم آخر لا تستحق أفعالي وأفكاري أن توجد فيه. لكن ما أن ينطق بكلمة حتى يكف عن التعالي علي : هو ذا صوته وهي ذي أفكاره، هو ذا المجال الذي كنت أعتقد أنه يستعصي على بلوغه. فلا يعلو كل وجود معين على الآخرين بصورة نهائيه إلا حين يبقى. عاطلا، ويتوطد فى اختلافه الطبيعي .
ميرلوبونتي، فينومنلوجيا الإدراك
نقلا عن الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة وزارة التربية الوطنية - الطبعة الأولى 1996-1997
لكن الإقرار بإمكانية معرفة الغير لا يمنعني من البحث عن أنماط وطرائق هذه المعرفة، لأن التواصل يفترض وجود علامات، سنن وقنوات. وفي هذا الإطار يبدو كما لو أن معرفتنا بالغير قائمة على نوع من الإستدلال الضمني هو "الإستدلال بالمماثلة"، فإذا كانت حالة الخجل تترافق عندي مع احمرار الوجه، والألم مع البكاء وبعض الكلمات مع بعض المعاني أو المشاعر، فإني أسارع إلى تأويل احمرار الوجه كعلامة على خجل الغير،كما أنسب إلى كلماته المعاني والمشاعر المعهودة لدي ... وهكذا. إن معرفة الغير على هذا النحو قائم على افتراض أن الغير شبيه ومماثل للأنا، وأن العلامات الخارجية الصادرة عنه ( كلمات ،حركات، تعابير الوجه ... ) تترافق مع حالات نفسية داخلية معينة كما هو الحال لدى الذات ،إننا ببساطة لا نعرف الغير مباشرة، بل عبر وساطة ما يصدر عنه من علامات . غير أن تناول معرفة الغير على هذا النحو يطرح صعوبات واستحالات : فقد يظهر الغير خلاف ما يبطن قاطعا الصلة بين الحالة النفسية وعلاماتها المعهودة ، وقد تفشل التعابيرالخارجية (الكلمات مثلا ) في التصوير الدقيق لتلوينات المعاني والأحاسيس والمشاعر، بل هناك ماهو أكبر من ذلك: عندما أدرك وراء إحمرار وجه الغير خجله، فأي خجل أدرك بالضبط؟ ألا أستحضر هنا تجربة خجلي الخاصة لفهم خجل الغير؟ ألا أدرك إذن خجلي الخاص فحسب؟ إنني ألتقي هنا مجددا بذاتي أنا وليس بذات الغير مادمت أختزل خجل الغير إلى خجلي الذي سبق أن خبرته وعشته؟
إن معرفة الغير من خلال إستدلال المماثلة تنتهي إلى تناقضات كثيرة نعيها بدرجات مختلفة في حياتنا اليومية، لذلك يرى ماكس شيلر أنه لتجاوز هذه الصعوبات ،ينبغي تجاوز الخلفيات الميتافيزيقية للتحليل السابق الذي يتناول الغير من خلال ثنائيات النفس/ الجسم أو الظاهر / الباطن وإعتبار الغير كلية أو كلاّ موحدا لايقبل التجزئة والإنقسام ولا يحيل فيه ظاهر مادي (جسدي) على باطن أو عمق مستحيل المنال ، بل إن حقيقته وهويته مجسدتان فيه كما يظهر ويتجلى للأنا : إن حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لمعناها ودلالاتها مباشرة كما تظهر. وينبغي التشديدعلى هذه الكلمة الأخيرة لأنها تدل على أن التحليل الظاهراتي أو الفينومينولوجي (أي وصف التجربة المعيشية مباشرة قبل خضوعها للمعالجة العقلية المجزئة ) يظهر أن معرفتنا للغير هي معرفة كلية مباشرة لا يمكن تجزيئها إلى عناصر ومراحل دون الإخلال بحقيقتها : فعندما أدرك فرح الغير ،فإني لا أدرك إبتسامته أولا منفصلة عن فرحه الداخلي الذي أستنتجه لاحقا، بل أدرك الأمرين معا ككلية متزامنة . ومما يدل على الطابع المباشر لعلاقتنا المعرفية بالغير ،قدرة الرضيع على التجاوب مع أمه والرد على إبتسامتها بابتسامة مماثلة مدركا مشاعر الأمان والحنان والتشجيع الكامنة خلفها وهو غير قادر بعد على القيام بأي نشاط أستدلالي معقد . ألا يشهد ذلك أن معرفتنا للغير تفترض نوعا من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الذوات . وهي مشاركة تبدو كمعطى شبه غريزي وكشرط لإندماج الكائن البشري ضمن جماعة الذوات الأخرى . وإذا استعملنا مصطلحات دلتاي سنقول بأن معرفة الغير تنتمي إلى مجال الفهم لا إلى مجال التفسير.
هكذا تبدو معرفة الغير أكثر تعقيدا مما يتصور الحس المشترك، بحيث تصدق هنا مقولة التوحيدي: " لقد أشكل الإنسان على الإنسان" وهو تعقيد يتزايد عندما نتأمل تعدد وجوه الغير.
وجوه الغير: الصداقة والغرابة
ليست علاقتنا بالغير مجرد علاقة معرفية، بل هي علاقة مركبة: عاطفية، وجدانية، إقتصادية، سياسية... ولذلك لايمكن فهمها في المجرد والمطلق بل بالتخصيص والتمييز: إذ يختلف تناول إشكالية وجود الغير وعلاقته بالأنا أو معرفته أو أشكال التواصل معه أو إمكانية إحترامه أو نبذه... حسبما إذا كان هذا الغير صديقا أو غريبا مثلا.فلنطرح القضية إذن بتجريد أقل مما سبق: كيف أقرأ علاقاتي المختلفة بالغير؟ ألا تدلني هذه العلاقات من جهة، على امكانية التواصل والتماهي معه، كما في حالة الصداقة والصديق ؟ وعلى حقيقة الإنفصال والإختلاف الجذري واللاتواصل واللاتفاهم كما في حالةالغريب من جهة ثانية؟ وعليه ألا يثير الغير بسبب تماثله ومغايرته مشاعر الإحترام والإعتراف وأيضا الإقصاء والنفي؟ وباختصار:كيف أتعرف على غيرية الغير وكيف اقرؤها؟ !
تنبيه: يمكن إستثمار المعطيات اللاحقة كنماذج تطبيقية وأمثلة ملموسة أثناء الإشتغال على إشكاليات متعلقة بوجود الغير أو معرفته.
من بين كل الأغيار، يظهر الغريب أقدر من غيره على تمثيل طبيعة علاقتي بالغير: فإذا كان الغير من "المغايرة" أي الاختلاف فإن الغريب هو الغير بامتياز، إنه المختلف، الأجنبي الذي يندس وسط جماعة من دون أن يشاطرها ثقافتها؛ لذلك نتساءل:ماذا أعرف عن طبيعة علاقتي بالغير على ضوء علاقتي بالغريب؟ وماهي دلالة الحذر والتوجس بل والكراهية التي يثيرها الغريب لدى الذات؟
موقف كريستيفا:علاقتي بالغير على ضوء النظر الأخلاقي العقلي
نحترم الغريب لأنه القوة الخفية لهوية الذات
يبدو الغريب للوهلة الأولى عنوانا للحذر، للمجهول، للنكرة، للإبتعاد والإقصاء. لكن من هو الغريب تحديدا؟ إنه مفهوم زئبقي لأنه يتحدد دوما كغريب بالنسبة لجماعة مرجعية ما؛ إنه ذلك الذي لا يشاطر أعضاء الجماعة مرجعيتهم المشتركة، ذلك الذي يجر خلفه ثقافة مغايرة مجهولة، إنه الدخيل بكل بساطة، وباعتباره كذلك فقد نظر إليه عبر التاريخ كمسؤول عن كل شرور المدينة أو الجماعة والذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن هذا الموقف الإقصائي حاضر بقوة في كل مكان بدءا من ساكن المدينة الذي يعتبر نفسه "مدينيا" أصيلا محملا جميع مشاكل المدينة إلى هؤلاء الغرباء "البدو" (الْعْروبيهْ-بالدارجة!!) القادمين من البعيد، وصولا إلى الخطابات السياسية القائمة على كراهية الأجنبي المهاجر و ضرورة طرده كحل للأزمات ... . لماذا و هل ينبغي أن يكون الغريب دائما إسما مستعارا للحقد و الإقصاء؟
نص كريستيفا : من هو الغريب؟!
ليس الغريب، الذي هو اسم مستعار للحقد وللآخر... هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها . . . ولا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن الغريب يسكننا على نحو غريب. إنه القوة الخفية لهويتنا ، والفضاء الذي ينسف بيتنا ، والزمان الذي يتبدأ فيه وفاقنا وتعاطفنا . ونحن إذ تنعرف على الغريب فينا نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته. إن الغريب، بوصفه عرضا دالا يجعل النحن» إشكاليا وربما مستحيلا، يبدأ عندما ينشأ لدي الوعي باختلافي، وينتهي عندما تنعرف على أنفسنا جميعا على أننا غرباء متمرون على الروابط والجماعات ( . ..)
كيف يكون الإنسان غريبا ؟
نادرا ما يخطر على بالنا هذا السؤال، لشدة اقتناعا بكوننا مواطنين بصورة طبيعية. . . أو أننا إن انقدنا إلى طرحه طرحا سطحيا ، فلكي نحط، على الفور، في جهة من يتمتعون بالحقوق الوطنية، ونقصي إلى خارجية خرقاء، من ينتمون إلى بلد آخر لم يعرفوا كيف يحرصون على الإنتماء إليه ولم يعد ملكا خاصا لهم. حقا إن لفكرة الغريب اليوم، دلالة حقوقية، فهي تدل على من لا يتمتن بمواطنة البلد الذي يقطنه. ومن المؤكد أن مذاهالضبط من شأنه تهدئة الخواطر واتاحة إخضا ع الأهوا ء الشائكة للقوانين، كك الأهوا ء التي ميسثيرها تطفل الآخر وانحشاره داخل انسجام أسرة أو جماعة بشرية. غير أنه يسكت عن ضروب القلق والإنزعاج التي تتصل بهذه الوضعية الشاذة، التي تتمثل في أن يتخذ الإنسان وضعية المختلف داخل جماعة بشرية تنفلق، بالتعريف، على نفسها مقصية عنها المخالفين .
جوليا كريستسفا، غرباء عن أنفسنا
نقلا عن الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة وزارة التربية الوطنية - الطبعة الأولى 1996-1997
تقوم سيكولوجية الجماعة على تطابق الأنا أو الذوات الفردية مع النحن/الجماعة انطلاقا من آليات معقدة للتنشئة الإجتماعية، مع اعتقاد راسخ في الطابع الخالص لهوية الجماعة و ثقافتها. مما يسهل على أفراد الجماعة التعرف على بعضهم و استبعاد كل غريب و آخر، وهنا تتساءل الفرنسية ذات الأصل البلغاري "جوليا كريستيفا": ألا تحمل كل جماعة غريبها في ذاتها قبل قدوم الغريب الأجنبي؟ و ذلك عندما يشعر أفرادها بالرغبة في التمرد على روابط و قيم جماعتهم ووضعها موضع تساؤل و تشكك أو عندما لايستطيعون العثور على "أناهم" من خلال "نحن" الجماعة. وهل هناك جماعة ذات هوية خالصة تبرر استبعاد العناصر الأجنبية عنها؟ ما الهوية المغربية مثلا؟ أليست مزيجا من هويات أمازيغية ،افريقية، عربية، إسلامية، اندلسية، غربية...واللائحة طويلة. إذا فالغريب أو الآخر ليس سوى ذلك الجزء أو القوة الخفية لهويتنا التى نحاول انكارها باستمرار بحثا عن نقاء خالص موهوم. ثم ألا تحمل الذات الفردية بدورها غريبها في ذاتها متمثلا في ذلك الجزء المجهول – اللاشعور – الذي لايكاد الأنا يعلمه أو يعيه.
كخلاصة، ماذا ينبغي أن يعني الغريب بالنسبة إلى الأنا؟ إنه يحيل كل هوية فردية أو جماعية إلى هوية إشكالية وربما مستحيلة. والأهم من ذلك – كما تقول كريستيفا – فإننا عندما نتعرف على الغريب في ذاتنا، نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته فنتخد حياله موقف الحوار والتسامح عوض العداء والإقصاء.
إذا كان موقف كريستيفا مقنعا من الناحية النظرية-العقلية ، فلماذا لا يجد سبيله إلى التطبيق على أرض الواقع؟ لماذا يرتسم الحقد والحذر عنوانا لعلاقتي بالغير/الغريب؟ ألا يعني ذلك أن علاقتي بالغريب/الغير تتحدد أيضا على المستوى الوجداني -النفسي اللاشعوري (الأهواء)؟
موقف فرويد:علاقتي بالغير على ضوء التحليل النفسي-نحترم الغريب لأنه يسكن في قلب الذات
في النص التالي ينطلق فرويد من نظرية "الطابع الغريزي المتأصل للنزعات العدوانية لدى الإنسان"، وما يستتبع تفريغها من لذة، ليحاجج بأن محبة الجار/القريب مستحيلة، فمالك بالغير/الغريب. وبعد تحليل وفحص مختلف الأسباب التي يمكنها أن تدعوني إلى حب الغير واحترامه، يخلص إلى نتيجة مستفزة، لكنها تعكس جيدا الخاصية النقدية للتفكير الفلسفي، و هي أن الغريب ليس غير جدير بالحب بوجه عام فحسب، بل ينبغي أيضا أن اقر، توخيا للصدق، بأنه يستأهل في غالب الأحيان عدائي،!وبعبارة أرى يحاول فرويد أن يكشف مقدار النفاق والتناقض الذي يقف وراء الحكم الأخلاقية وعلى رأسها الحكمة الشهيرة: " أحب قريبك كما تحب نفسك" ومن ثم استحالة تنظيم علاقتي بالغير وفق مبدأ أو أمر أخلاقي عام ومجرد
نص فرويد : كيف لي أن أحب قريبي كحب لنفسي؟!
الحال انه في عداد المطالب المثالية للمجتمع المتحضر مطلب قمين هنا بأن يهدينا إلى سواء السبيل. هذا المطلب يقول لنا: "أحبب قريبك كنفسك". وهذه الكلمة الجامعة، المشهورة في العالم قاطبة، اقدم عهدا بكل تأكيد من المسيحية التي وضعت اليد عليها كما لو أنها المرسوم الذي يحق لها ان تفاخر غاية المفاخرة بصدوره عنها. لكنها بالتأكيد ليست سحيقة في القدم. فقد كانت ما تزال مجهولة من البشر حتى في عهود ما بعد التاريخ.
لكن لنقف منها موقفا ساذجا كما لو اننا نسمع بها للمرة الأولى، وفي هذه الحال لا نستطيع ان ندفع عن أنفسنا شعورا بالمباغتة إزاء غرابتها. فلماذا نعتبر ما ورد فيها واجبا علينا؟ وأي عون تمدّنا به؟ ثم كيف السبيل، على الأخص، إلى العمل بها وتطبيقها؟ وهل سيكون ذلك في مستطاعنا؟
ان حبي لهو في نظري شيء ثمين ثمين بحيث لا أملك الحق في هدره والتفريط به دونما وعي وهو يفرض علي واجبات يفترض فّي أن أكون قادرا على الوفاء بها ولو مقابل تضحيات. وإذا أحببت كائنا آخر، فلا بد ان يكون مستأهلا لذلك بصفة من الصفات (أستبعد هنا علاقتين لا تدخلان في حساب حب القريب: الأولى أساسها الخدمات التي يمكن ان يؤديها لي، والثانية أساسها أهميته الممكنة كموضوع جنسي). انه يستأهل حبي حين يشبهني في وجوه مهمة شبها عظيما يمكن معه ان احب فيه نفسي أنا. إنه يستأهله إذا كان اكمل مني إلى حد يتيح لي إمكانية ان احب فيه مَثَلي الأعلى بالذات. وعلي ان احبه إذا كان ابن صديقي، لان ألم صديقي، إذا وقع مكروه لابنه، سيكون أيضا ألمي، ولن يكون أمامي مناص من أن أشاطره إياه.
ولكن إذا كان بالمقابل مجهولا مني، وإذا لم يجتذبني بأي صفة شخصية، ولم يلعب بعد أي دور في حياتي العاطفية، فانه من العسير جدا علي ان أشعر تجاهه بعاطفة حب. ولو فعلت لاقترفت ظلما، لأن أهلي وأصحابي جميعا يقدّرون حبي لهم على انه إيثار وتفضيل، وسأكون مجحفا بحقهم لو خصصت غريبا بالمحاباة نفسها. وإذا كان لا بد، والحالة هذه، ان أشركه في مشاعر الحب التي تخالجني كما يقتضي العقل إزاء الكون قاطبة، وهذا فقط لأنه يحيا على هذه الأرض مثله مثل الحشرة أو دودة الأرض أو الحفت، فانني أخشى ألا يشع من قلبي باتجاهه سوى قدر ضئيل للغاية من الحب، كما أخشى بكل تأكيد الا يكون في مقدوري ان أغدق عليه من الحب بقدر ما يأذن لي العقل ان احتبسه من اجل نفسي. ولكن ما الفائدة من هذه الفذلكة المفخمة بصدد وصية لا يبيح لنا العقل ان ننصح أحدا بإتباعها؟
حين أمعن النظر في المسألة عن قرب اقرب، ألمح المزيد من الصعاب والإشكاليات أيضا. فذلك الغريب ليس غير جدير بالحب بوجه عام فحسب، بل ينبغي أيضا أن اقر، توخيا للصدق، بأنه يستأهل في غالب الأحيان عدائي، بل كراهيتي. فهو لا يبدو انه يكنّ لي أي عطف، ولا يدلل نحوي على أي مراعاة. وإذا ما وجد في الأمر نفعا له، فلن يتردد في إنزال الأذى بي، بل هو لا يتساءل ان كانت أهمية الكسب الذي يجبيه تتناسب مع عظم المضرة التي ينزلها بي. والأدهى من ذلك والأمّر انه حتى إذا لم يَجْنِ ربحا، وإنما فقط مجرد لذة ومتعة، فلن يتردد البتة في الهزء مني وإهانتي والافتراء علي، ولو تباهيا منه فقط بالسلطان الذي له علي. وفي وسعي أن أتوقع حتمية هذا السلوك حيالي بقدر ما يشعر بمزيد من الثقة بنفسه وبقدر ما يعتبرني أضعف منه ولا حول لي ولا قوة. أما إذا سلك غير هذا السلوك، وأما إذا قابلني، حتى من دون أن يعرفني، بالاحترام والمراعاة، فانني لعلى أتم استعداد عندئذ لمقابلته بالمثل، دونما حاجة إلى توسط وصية أخلاقية. ومن المؤكد ان تلك الوصية السامية لو صيغت على النحو التالي: "أحبب قريبك كما يحبك هو نفسه"، لما كان لي عليها من اعتراض.
ولكن ثمة وصية ثانية تبدو لي أشطّ من الأولى فأياً عن المعقول وتضرم فيّ نار تمرد أعنف وأقوى. وصية تقول لنا: "أحبب عدوك". ولكني أجدني، عند إمعان التفكير، مخطئا إذ أطعن فيها باعتبارها تنطوي على دعوى أشد بطلانا من تلك التي تنطوي عليها الوصية الأولى. وفي الواقع، كلتاهما سيان.
المصدر: سغموند فرويد، قلق في الحضارة، ضمن "الحب والحرب والحضارة والموت" ترجمة عبد المنعم الحفني دار الرشاد، القاهرة 1992 ص.ص: 71-73
النص في الحقيقة مقتطف من الترجمة العربية لكتاب "قلق في الحضارة" لجورج طرابيشي ولكن احالاته قد ضاعت
التاريخ
I-المحور الأول: إشكالية المعرفة التاريخية
بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال) يواجه علم التاريخ ومعه المعرفة التاريخية وضعية فريدة بين العلوم الإنسانية: فهو علم دراسة الماضي، مما يعني أن المؤرخ يدرس واقعا ولى وانقضى كما يقول ريمون آرون، واقعا تفصله عنه مسافة زمنية وثقافية، واقعا لم يعد له وجود! فما يوجد اليوم وجودا ماديا فيزيائيا ينحصر في الآثار والوثائق. يتعين على المؤرخ إذن أن ينطق ويستنطق وينتقي هذه "المخلفات" ليعيد بناء الوقائع التاريخية مما يجعل من المعرفة التاريخية معرفة مبناة بامتياز
طرح الإشكال: ضمن أية شروط تكون المعرفة التاريخية المبناة مطابقة لموضوعها أي للحدث كما وقع فعلا؟ ما هي شروط إمكان المعرفة التاريخية كمعرفة علمية؟ هل يمكن للمؤرخ أن يستفيد من المسافة الزمنية التي تفصله عن الواقعة التاريخية وعن الفاعلين التاريخيين ليتناول مادة علمه بموضوعية بعيدا عن الذاتية أم أن دراسة الماضي لاتتم إلا بدافع من انشغالات الحاضر وضمن ايديولوجياته؟ كيف للمعرفة التاريخية أن تستعيد ليس فقط الواقعة التاريخية في بعدها الحدثي المادي بل وأيضا "أحداث الوعي"أي نيات الفاعلين ومقاصدهم ومحتويات وعيهم؟
معالجة الإشكال:
1- المعرفة التاريخية ورهان الدقة والموضوعية: المنهج النقدي
مثلما حذر بورديو من السوسيولوجيا العفوية أي تلك المعرفة الاجتماعية التلقائية التي يملكها الفاعل الاجتماعي حول الظواهر الاجتماعية من حوله، يتعين على المؤرخ أيضا أن يحذر من المعرفة التاريخية العفوية التي يدعوها ابن خلدون بظاهر علم التاريخ وهي تلك المعرفة التي يملكها كل واحد عن الماضي في شكل روايات وأخبار تتداولها وتتناقلها الأجيال. لايكون التاريخ علما إلا بوصفه نقدا وتفسيرا. فالنقد يتجلى في تمحيص وتحقيق هذه الروايات وسبرها بمعيار الحكمة و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار وفحصها على ضوء أصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني و الوقوف على طبائع الكائنات وقياس الغائب على الشاهد.
ولكن تحقيق الخبر التاريخي يحتاج أيضا إلى تفسيره للكشف عن علة ومنطق الأحداث التاريخية المتضمنة فيه والمبدأ المتحكم في حدوثها وتعاقبها...
2- حدود المنهج النقدي في التاريخ:
ماهي حدود المنهج النقدي في التاريخ؟ ألا يواجه علم التاريخ نفس الصعوبات الميتودلوجية ونفس الإشكالات الإبستملوجية التي تواجهها باقي العلوم الإنسانية؟
ربما يوحي النقد بأن المؤرخ منكب على موضوعه بتجرد وقد وضعه على طاولة البحث تحت مجهر النقد، ولكن الموضوع ظاهرة إنسانية. والمعركة كما يقول آرون ليست فقط حدثا ماديا فحسب ذلك أن لتصرفات المحاربين دلالاتها ولتصرفات الضباط مقاصد وغايات ونيات...، وباختصار فالمؤرخ يدرس أحداث الوعي أيضا. الا تستدعي المعرفة التاريخية بهذا المعنى نوعا من التعاطف والتفهم من قبل المؤرخ للنفاذ إلى دلالات الواقعة بالنسبة للفاعل التاريخي؟ ولكن ألا تتعارض هذه الذاتية مع مطلب الدراسة العلمية الموضوعية كما يلح عليها الوضعانيون؟ وماهي حدود الدقة التفسيرية التي التي يطمح إليها المؤرخ؟ يرى مارو أن بناء الواقعة التاريخية ثمرة تلاقح بين المنهج النقدي والتعاطف، بحيث يصحح أحد الطرفين إفراط الآخر. والتعاطف أو المشاركة الوجدانية عند مارو خروج المؤرخ من ذاته لملاقاة الغير (التاريخي)، بحيث تقوم بينه وبين موضوعه ضرب من الصداقة لايصح الفهم والتفسير بدونها. إن التعاطف هو مرحلة البناء التي تعقب الهدم الذي يمثله المنهج النقدي
I-المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم
بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال) أوضح ابن خلدون بأن ظاهر علم التاريخ لا يختلف عن باطنه في التحقيق والتمحيص فحسب بل يزيد عليه بالتعليل والتفسير أي الكشف عن علل الأحداث ومبادئها. وبذلك يكون التصور الخلدوني جامعا لعلم التاريخ وفلسفة التاريخ معا، لأن هذه الأخيرة تتجاوز تحقيق الوقائع إلى البحث في علة حدوثها ومبدأ تعاقبها بل في منطق ومعنى السيرورة التاريخية ككل.
طرح الإشكال: هل هناك منطق ثاو خلف تعاقب الأحداث التاريخية أم أن التاريخ هو مملكة الصدفة والعرضي؟ هل هناك معنى لهذه السيرورة وهل التاريخ قابل للتعقل؟ وإذا كانت ثمة منطق للسيرورة التاريخية فهل يمكن أن نستخلص منها غاية التاريخ ونتنبأ بوجهته التي يمضي نحوها ؟ وإذا وجدت غاية للتاريخ أفلا يعني أن صيرورة التاريخ يمضي نحو نهاية التاريخ؟
معالجة الإشكال:
1- التاريخ الدوري والغياب التام لفكرة التقدم
السيرورة التاريخية في المستوى الخام وقبل كل تفسير هي تعاقب لأحداث. وأبسط أنواع الظواهر المتعاقبة التي يسهل الكشف عن منطقها هي الظواهر الطبيعية الكبرى ( تعاقب الليل والنهار، الفصول، أطوار حياة الكائن...) ولقد اتضح للإنسان مبكرا أن منطقها منطق دوري إذ أن الظواهر تتالى وتتعاقب وتنمو وتندثر لتعود مجددا إلى طورها الأول . لقد استعير هذا المنطق لفهم السيرورة التاريخية فيما يعرف بالعود الأبدي الذي نجده في الكثير من الميثلوجيات وبعض الفلسفات كفلسفة نيتشه تمثل فلسفة التاريخ الخلدونية ونظريته في العصبية نموذجا للتصور الدوري للتاريخ الذي تغيب عنه فكرة التقدم والتراكم. لقد استطاع ابن خلدون أن يلتقط المبدأ المفسر للسيرورة التاريخية أو للعمران البشري متمثلا في أهم مظاهره وهي الظاهرة السياسية أو الدولة. إن العصبية هي العامل المفسر لقيام الدول وانهيارها. والعصبية كما الدولة يبدآن بالفتوة ثم القوة فالهرم والشيخوخة والإندثار: تبدأ الدولة الجديدة كدعوة تتخد من العصبية مصدرا لقوتها داخل قبيلة واحدة تتقوى لتضم تحت سيطرتها قبائل أخرى وبمقدار ماتتسع سطوتها تتحول إلى طور الدولة وما يصاحب ذلك من استقرار وتشييد وتنظيم إداري ومالي وعسكري... ولكن بقدر ما تتوسع مظاهر العمران، تضعف وظيفة العصبية والحاجة إليها لممارسة السلطان. وكأن تطور الدولة يحمل في ذاته بذور تلاشيه: ذلك إن اتساع الرقعة الجغرافية للدولة وعدد جيوشها ودواوينها وتنوع أصناف البذخ يرهق ميزانيتها فيدفعها إلى فرض المزيد من المكوس والضرائب وممارسة صنوف الجور والإفراط... فتدب الإنشقاقات والثورات والوهن في جسمها، مما يوفر الشروط لنشوء دعوة جديدة تنقض عليها لاتزال العصبية فيها فتية قوية... وهكذا دواليك ليبدأ دور أو طور جديد
2 -التاريخ وفكرة التقدم
ألا يمكن أن نجد للصيرورة التاريخية منطقا آخرا غير التكرار الدوري الارتدادي الذي يعيد إنتاج نفسه ولا يضيف شيئا؟ ألا تتضمن السيرورة التاريخية نوعا من التراكم بحيث يحتفظ الدور اللاحق بشيء من الدور السابق ويضيف له ويتجاوزه؟ وإذا صح شيء من ذلك فإلى أية وجهة يمضي هذا التراكم والتجاوز؟
يرى "تيودور شانين" أن جاذبية فكرة التقدم تعود إلى بساطتها وتفاؤليتها، فهي تعني أن كل مجتمع يسير نحو الأعلى على طريق طويل بيتعد فيه تدريجيا عن الفقر والبربرية والاستبداد والجهل ليمضي نحو الثراء والحضارة والديموقراطية والعقل.
يظهر التصور التراكمي للتاريخ في كتابات باسكال (1662-1623) وبالخصوص في مقدمته لكتاب "عن الفراغ" حيث تصور تاريخ البشرية كرجل واحد، عمره كل هذه القرون، لايتوقف خلالها عن التعلم المستمر ؛ كوندورسيه (1743-1794) في كتابه ذي العنوان الدال: " جدول تاريخي لتقدم الجنس البشري"
تعكس لنا فلسفة التاريخ مع هيغل هذا التفاؤل الذي ميز بالخصوص عصر الأنوار في امكانية تقدم مطرد للجنس البشري نحو مزيد من المعرفة والحرية والسيطرة على الطبيعة، وقد استدمج التصور الهيجيلي مفهوم السلب والنفي ضمن صيرورة جدلية يتجاوز فيها اللاحق السابق و في نفس الوقت يحتفظ في مركب أعلى بما هو جوهري فيه. ولكن هذا "الرقي" يفترض غائية للتاريخ، ومادام التاريخ ليس سوى تجليات لفكرة أو روح تسعى لوعي نفسها وللتطابق مع ذاتها بدءا من أبسط مظاهر الطبيعة وصولا إلى أعقد مظاهر التاريخ وأرقى أشكال المعرفة، فإن التاريخ الكوني هو سيرورة التقدم الذي يحرزه وعي الحرية، ولامناص من الاعتراف بالطابع الضرروري لهذا التقدم والتي هي ضرورة منطقية في العقل قبل أن تكون ضرورة واقعية في التاريخ. بهذا المعنى فحتى مشاهد الدمار وظواهر الحرب ولحظات الكبوات ليست سوى انتكاسات سطحية تخفي التقدم العميق والصامت الذي تخوضه الفكرة وهي تتقدم نحو غايتها المتمثلة في الحرية. ونجد نفس هذه النظرة التفاؤلية وتأويلها "الإيجابية للكوارث" لدى لايبنز أيضا
3- نقد فكرة التقدم – ريمون آرون
قلنا إن فكرة التقدم بنت عصر الأنوار، ولذلك فقد ورثت هذه الفكرة النزعة الإنسية الكونية لذلك العصر ، مما يعني أن كل المجتمعات البشرية تتقدم بوتائر متفاوتة، ولكن على نفس المسار الخطي التراكمي، وهو مايؤدي حسب ليفي ستروس إلى إذابة الاختلافات بين المجتمعات والثقافات والحكم عليها بمنطق التقدم الغربي العلمي،التقني، الصناعي والقيمي.
أما بالنسبة لريمون آرون،فإن فكرة التقدم تتضمن حكما معياريا قيميا ينتقص من علميتها، مفاده أن المجتمع اللاحق أفضل من السابق، علاوة على أنه حكم ذو صلاحية قطاعية لايمكن أن تنسحب على التاريخ برمته: فإذا كنا نعاين في مجالي العلم والتقنية تراكما وتقدما لاسبيل إلى انكارهما لأن طبيعتهما تفرض تقدما يمكن قياسه دون تقييم، فإن إثبات التقدم في مجالات الفن والدين والاقتصاد والسياسة يظل قضية إشكالية.
ويمضي ريمون آرون في نقده لفكرة التقدم إلى إبراز خلفيتها الميثولوجية وكذا استعمالاتها السيئة داخل فلسفة التاريخ، الهيغيلية منها أو الماركسية،وكذا الأطروحات اللاحقة لفوكوياما حول نهاية التاريخ. ذلك أن فكرة التقدم لاتنفصل عن فكرة نهاية التاريخ: فالقول بفكرة التقدم يفترض أولا وجود غائية تاريخية وحتمية ترسم للسيرورة التاريخية مسارها المحدد سلفا بهذه الغائية، ويفترض ثانيا وجود نهاية للتاريخ تمضي نحوها هذه السيرورة بما هي مسيرة نحو الخلاص.
بيد أن فلسفات التقدم تسقط بشكل لامفر منه في نزعة محافظة وتبريرية وذلك في خلطها بين فكرة عقلية ليس لها سوى استعمال معياري وبين شكل متعين قائم من أشكال النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي ( مثلما فعل هيغل حين طابق بين الدولة البروسية والعقل، أو ماركس حين جعل من المرحلة الشيوعية وسيطرة البروليتاريا نهاية الصيرورة التاريخية، أو فوكوياما حين جعل من الديموقراطية الليبرالية نهاية التاريخ...)
المحور الثالث: دور الإنسان في التاريخ:
بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال) إن البحث في دور الإنسان في التاريخ لهو استمرار للتساؤل حول منطق التاريخ وغايته، ذلك أن القول بوجود منطق وغاية للتاريخ يقتضي أن الصيرورة التاريخية تمضي وفق مبادئ وقوانين موضوعية مادية أو عقلية بعيدا عن الذاتية المتقلبة للإنسان المفرد أو المسارات المباغتة للصدفة العمياء، أي إحلال عامل أو مبدأ ما محل الإنسان في توجيه دفة التاريخ.
فمن جهة يبدو الإنسان هو صانع تاريخه من خلال بطولة الأبطال وتضحيات المحاربين و ثورات الشعوب، ومن جهة أخرى يبدو أن بطولة هؤلاء وثورات أولئك قد صنعتها ظروف مواتية. هل يمكن مثلا أن نرجع توسع الدولة الإسلامية ماضيا إلى استبسال المسلمين وقوة إيمانهم وشجاعتهم ونفسر إنحسارها اليوم بتخاذلهم وجبنهم أم أن ذاك التوسع وهذا الإنحسار إنما يرجع إلى عوامل اقتصادية وسياسية عالمية تتجاوز الإطار المحلي. من قبيل الاكتشافات الجغرافية والنهضة الأروربية...
طرح الإشكال: إذا كان المؤرخ لا يعتني بهبوب الرياح قدر اعتنائه بمجهود الإنسان في استخدام قوتها لتوجيه سفنه للتجارة أو شن الحروب، ولايهتم بفيضانات الأنهار إلا من حيث أنها تتقاطع أو تؤثر على حياة إنسانية قائمة بجوارها... فلأن أحداث الماضي لاتكون موضوعا للتاريخ إلا من حيث أن الإنسان هو مُحدثها أو محورها على الأقل. ما حقيقة كون الإنسان "مُحدثا" للحدث التاريخي؟ هل يعني ذلك أن الإنسان هو من يصنع تاريخه ويوجه دفة صيرورته؟ أم أن الصيرورة التاريخية مشروطة بعوامل موضوعية تفوق إرادة الإنسان نفسه الذي ليس سوى جزء من بنية تتجاوز وعيه وإدراكه؟
معالجة الإشكال:
1- الإنسان مجرد أداة عرضية لتحقق الفكرة - هيغل
تاريخ العالم عند هيغل مجرد تمظهر لسعي الروح نحو معرفة ذاته، وإذا كانت البذرة تحوي في ذاتها كامل خصائص الشجرة من مذاق وشكل فاكهة التي ستظهر لاحقا، فإن اللحظات الأولى للتاريخ بما هي آثار أولى للروح تحتوي بالقوة مسبقا أيضا كل التمظهرات اللاحقة التاريخ. ماذا يتبقى إذن للإنسان من دور في تاريخ محدد قبليا؟
لاأهمية للبشر /الأفراد عند هيغل إلا بقدر ما يكون هؤلاء أدوات لتحقيق اغراض أسمى، وبقدر ما تتمثل فيهم حقبة من حقب الفكر المطلق. بل إن أبطال التاريخ وعظماءه بدورهم لايحققون إرادتهم الخاصة ولا يسعون لنيل سعادتهم الشخصية بقدر ما يمتثلون لروح العصر التي تستعملهم وتتحقق بهم ومن خلالهم وتجاوزهم
2- ماركس: (الشروط المادية)تطور قوى الإنتاج هي المحركة للصيرورة التاريخية
ماهذه الفكرة أو الروح المطلق التي تستعمل البشر - شعوبا وقادة - لتحقق نفسها !؟
في هذه النقطة بالذات تمثل فلسفة التاريخ الماركسية تجاوزا لفلسفة التاريخ الهيغيلية، إذ أن الفكرة أو الروح المطلق التي كانت تتجلى تدريجيا عبر التاريخ وتحرك خيوطه وتسير أبطاله، حلت محلها - في الماركسية - عوامل مادية هي ظروف الإنتاج المادي للحياة بيد أن موقع الذات الإنسانية في التاريخ ظل في الماركسية على ماهو عليه، : ففي الوقت الذي يعتقد الفاعل التاريخي أنه يتصرف وفق ما يختاره من معتقدات دينية أو ما يتبناه من مبادئ سياسية يبين التحليل المادي للتاريخ أن المعتقدات الدينية والمبادئ السياسية ماهي إلا انعكاس للبينة التحتية الإقتصادية، أي لمستوى معين من تطور قوى الإنتاج. وعلى ضوء التحليل الماركسي، لاتعدو أن تكون بطولات نابليون وروبيسبيير حماس جماهير وأحزاب الثورة الفرنسية سوى إنجاز لمهام عصرهم المتمثلة في انبثاق المجتمع البرجوازي وتفكيك المؤسسات الفيودالية.
وإذا كان الوعي هو النمط الوحيد الذي يمكن من خلاله إثبات فعل الإنسان في التاريخ، فإن هذا الوعي نتاج للوجود الاجتماعي وليس العكس
3- سارتر- الإنسان صانع تاريخه
ولكن إذا كانت الماركسية تقدم نفسها كتحليل علمي للتاريخ يكشف النقاب عن القاعدة المادية المسؤولة في الواقع عن الصيرورة التاريخية، ألا تتيح هذه المعرفة للإنسان الانفلات حتمية هذه الصيرورة؟
يرى سارتر أن الماركسية قد أسيء تأويلها بشكل تبسيطي أو أن إمكانيتها لم تستثمر بشكل كامل: إن الماركسية فلسفة للحرية أو بالأحرى للتحرر ليس فقط للإنسان الفرد بل للطبقة المستغلة بأسرها، ذلك أن التاريخ لايكون قوة غريبة تستلب البشر إلا مادامت دلالة مجهوداتهم غريبة عنهم والحال أن التحليل الماركسي يقدم الأدوات الكفيلة بالتعرف على المنتوج وفهم سيرورته، من خلال مفاهيم قوى الإنتاج ، علاقات الانتاج،الصراع الطبقي، وأشكال الاستيلاب والايديولوجيا... وبذلك تصبح الممارسة الإنسانية ممارسة مستنيرة بالوعي لاممارسة عمياء قد تنقلب نتائجها ضدها.
التجربة و النظرية
محاور الدرس:
التجربة والتجريب
العقلانية العلمية
معايير علمية النظرية
المحور الأول: التجربة والتجريب
ماالاشكال المطروح هنا؟ مالقضية التي يتعين معالجتها ومالسؤال أو الأسئلة التي ينبغي الجواب عليها؟
يحظى العلم (وخصوصا العلوم الدقيقة ) بتقدير خاص، حتى الخطاب الديني يستعير القوة الإثباتية للحقائق العلمية. ولو سألنا أنفسنا عن السبب، لأجبنا دون تردد: لإنه يعتمد على التجربة، يقال إذن عن العلم إنه علم تجريبي
ولكن ما المقصود بالتجربة ؟ هل التجربة حكر على العلم !؟ أليست التجربة هي لقاء الواقعي أي مايقع خارج الذات أو يتمايز عنها ؟وعليه ألا توجد التجربة في صلب علاقتنا بالعالم وبالآخرين؟ وإذا صح هذا التعريف الأخير، فما الذي يميز الممارسة التجريبية في العلم عن نظيراتها في باقي مظاهر النشاط المعرفي الإنساني، كالتجربة الروحية أو الجمالية أو العاطفية؟
التجربة ليست حكرا على العلم، لأنها تقع في أساس كل معرفة إنسانية
لتجاوز هذا الإحراج، يتعين علينا الوقوف عند خصوصية الممارسة التجريبية العلمية من أجل إبراز أوجه الاستمرارية أو القطيعة بين المعرفة العلمية خاصة بما هي معرفة تجريبية والمعرفة الإنسانية عامة التي يقال عنها أيضا أنه ثمرة للتجربة
يرى بيكون أن العلم التجريبي لايتجاوز العلم التأملي إلا بخروج الفكر من ذاته واتجاهه نحو الواقع لاكتشاف العلاقات بين ظواهره، لكن الفكر الإ نساني كان دائما متجها نحو الواقع منصتا للعالم الخارجي بانبهار حينا وبخشوع أو يأس أو رجاء حينا آخر، أي أن الممارسة التجريبية، من حيث تعلم من الوقائع، سابقة على نشوء العلم نفسه كما يقول روني طوم !
بعبارة أخرى، إذا كان العلم المعاصر منذ غاليليو وبيكون علما تجريبيا، فمالذي يشكل بالضبط خصوصية الممارسة التجريبية العلمية إزاء مختلف التجارب الأخرى كالتجربة الروحية أو الجمالية أو العاطفية؟...
لنبدأ أولا بتحديد دلالات مفهوم التجربة بوجه عام
في النص التالي يحلل فرديناند ألكييه مفهوم التجربة بوصفه اختبارا لوقائع متمايزة عن الذات في مقابل الخيالات والأماني واختلاقات الذهن، وبذلك فالخاصية الأساسية للتجربة-حسب آلكيي – كامنة في خضوع الذات وسلبيتها وهي تتقبل المعطى، وهذه السلبية موجودة في كل معرفة إنسانية، كما أن عنصر الخضوع والتلقي يجعل من كل تجربة معاناة وتحملا. وينتهي آلكيي إلى أن واقعة ما أو إحساسا أو فكرة أو حقيقة لا تكون معطاة من طرف التجربة إلا عندما تكون موضع معاينة خالصة تستبعد كل اصطناع أو تدخل أو بناء من طرف الفكر.
نص فيرناند ألكيي : مفهوم التجربة
التقبل السلبي. تلك هي الخاصية التي توصل إليها الفلاسفة بعد تحليلهم لتجاربنا والتي حددوا بها مفهوم التجربة وميزوها عن الاختراع والابداع والخيالات والأماني. وبالفعل، أليس الحديث عن التجربة حديثا عن اختبار لغرابة حقيقية، وأن ما أفادنا وعلمنا هو بالضبط ماصدمنا وماعاكس طريقنا وأجبرنا على تغيير أوهامنا وأحكاما المسبقة والتخلي عن اليقينيات الوثوقية المكتفية بذاتها التي نتخدها غالبا منطلقا لنا؟ وحتى لو قمنا بتأويل التجربة وفهمها، فإنها تنطوي باستمرار على شيء من الخضوع ، أي خضوع الأنا. ولذلك تقترن التجربة عادة بالفشل؛ وكأن الألم ضروري لكي نغير مواقفنا من الحياة. هناك معارف لاسبيل غير المعاناة لتحصيلها ، إن خاصية المعاناة (التحمل) هو العلامة المميزة للموضوع الواقعي التي تسمح بتمييزه بشكل إيجابي...
والتجريب العلمي نفسه لايستحق نعت تجربة إلا لأنه وفي أكثر لحظاته فعالية إنما يمهد ويعلن عن لحظة السلبية التامة: أي اللحظة التي نكتفي فيها بتقبل واستقبال الواقعة التي تمثل جوابا بالنسبة للنشاط الفكري . صحيح أن الواقعة العلمية واقعة محددة بقوانين وفرضيات وبنسق فكري كامل، بيد أنها مع ذلك لاتكون واقعة إلا إذا انطوت على معطى [قائم بذاته ]غير قابل للإختزال (...)
نستطيع إذن أن نمنح لكلمة "تجربة" معنى دقيقا فنعلن أن أن واقعة ما أو إحساسا أو فكرة أو حقيقة تكون معطاة من طرف التجربة عندما تكون موضع معاينة خالصة تستبعد كل اصطناع أو تدخل أو بناء من طرف الفكر. بيد أن هذا مثل هذا التعريف يفتقر إلى الصفة الواقعية مادام ان مساهمة المعطى الخارجي تمتزج دائما بشيء من الاستجابة الفكرية الفعالة
يشير المفهوم الفلسفي للتجربة إذن إلى "تجربة خالصة" لاتجريب فيها أبدا؛ تدل كلمة "تجربة" على ذلك عنصر السلبية الموجود في كل معرفة إنسانية
Ferdinand Alquié, L'experience, PUF, 1957 pp.3-5
Cité par A.Rousel et G.Durozoi, Philosophie Notions et textes Nathan 1979 p156
2-الممارسة العلمية قائمة على "تجريب" لا مجرد "تجربة"
==
إذا كانت التجربة في معناها العام خضوعا سلبيا للمعطى الخارجي وموجودة في كل معرفة إنسانية، فهل تنسحب هذه الدلالة على الممارسة التجريبية في حقل المعرفة العلمية؟
لننصت إلى العلماء أنفسهم، إلى عالم الفيزيولوجيا الفرنسي كلود برنارد، أحد آباء المنهج التجريبي ومنظريه، وهو يصف ممارسته التجريبية، حيث يتضح جليا أن التجريب العلمي ليس مجرد خضوع للمعطى بل إخضاع للمعطى، ليس مجرد إنصات، إنه استنطاق
وهنا يتضح التمييز - التي دعا إليها ألبير جاكار - بين التجربة بما هي جماع ملاحظاتنا للظواهر التي تعطانا من قبل الطبيعة على نحو مباشر، وبين التجريب الذي هو ملاحظة لاستجابات معطيات العالم الواقعي ، حينما نخضعها لشروط منظورة وموجهة من طرف فكرنا
نص كلود برنار : الممارسة العلمية تجريب لا مجرد تجربة
ذات يوم، أحضر لي أحدهم أرانب اقتناها من السوق. وحين وضعتها على منضدة المختبر تبولت، فلاحظت بالصدفة أن بولها صاف وحمضي. واسترعاني ما لاحظته، لأن بول الأرانب يكون، عادة، مكدر اللون وغير حمضي ، باعتبار أنها حيوانات عاشبة، في حين أن بول الحيوانات اللاحمة يكون، كما هو معلوم، صافيا وحامضا. وقد قادتني ملاحظتي للحموضة في بول الأرانب إلى تصور أن هذه الحيوانات قد أخضعت لنظام غذائي يناسب الحيوانات اللاحمة. فافترضت أن من الأرجح أنها لم تذق الطعام منذ فترة طويلة، وأنها تحولت، بفعل الإمساك الطويل عن الأكل ، إلى حيوانات لاحمة تقتات من دمها لكي تعيش. ولم أجد أمرا أيسر من التحقق، بواسطة التجربة من صحة هذه الفكرة المفترضة أو هذه الفرضية. فقدمت طعاما من العشب للأرانب، وبعد بضع ساعات لاحظت أن بولها أخذ يتكدر وأصبح غير حمضي. ثم أخضعت نفس الأرانب للإمساك عن الطعام ، وبعد مرور أربع وعشرين ساعة أو ست ثلاثين ساعة على أقصى تقدير، استحال بول الأرانب، مرة أخرى، إلى الصفاء والحموضة الشديدة، ثم تحول، من جديد، إلى بول مضطرب اللون وغير حمضي، حين قدمت لها عشبا. وكررت هذه التجربة البسيطة مرات عديدة، فكنت أحصل ، دوما، على نفس النتيجة. وكررت هذه التجربة على الخيول، وهي كذلك حيوانات عاشبة، بولها مكدرا اللون وغير حمضي، فاكتشفت، أن إمساكها عن الطعام، ينتج حموضة مفاجئة في بولها، وزيادة مهمة نسبيا في مادة "الأوريا" Urée (مادة بلورية توجد في بول الحيوانات اللاحمة)، إلى درجة أنها كانت تتبلر، أحيانا، بشكل تلقائي في البول بعد برودته. وهكذا خلصت على إثر تجاربي، إلى هذه القضية العامة التي لم تكن معروفة حينها، ومؤداها أن كل الحيوانات تتغذى باللحم، عند إمساكها عن الطعام، بحيث يغدو بول الحيوانات العاشبة مشابها لبول الحيوانات اللاحمة.
كلود برنار- مدخل لدراسة المنهج التجريبي ص 216-217 نقلا عن "مباهج الفلسفة"
يقدم هذا النص تجربة علمية تكاد تكون غاية في النموذجية و الوضوح لمفهوم التجريب كما يتجلى في مراحل المنهج التجريبي:
1- لاحظت بالصدفة ...
يبدو وكأن شرارة البحث العلمي تنقدح من ملاحظات عفوية تثير انتباه العالم، بيد أن الصدفة كما يقول باستور لا تواتي سوى العقول المتيقظة
2- استرعى انتباهي ما لاحظته ...
حصول تعارض بين معطيات الملاحظة والمعارف العلمية السابقة، والواقع أن هذه الأخيرة هي التي تعطي للملاحظات دلالتها العلمية، وتنتقل بالموضوع من "موضوع واقعي" إلى "موضوع-معرفة"
3- فافترضت أن ...
اقتراح تفسير للملاحظة. تقول هذه الفرضية أن الأرانب وهي حيوانات عاشبة قد خضعت لنظام غذائي شبيه بالنظام الغدائي للحيوانات اللاحمة. ذلك أن الإمساك الطويل عن الطعام جعلها تقتات من مخزونها
4- لم أجد أيسر من التحقق بواسطة التجربة...
فقدمت ...
لاحظت ...
ثم أخضعت ...
وكررت... للتأكد من دور مختلف العوامل
-فكنت أحصل ...
-فاكتشفت...
تشير مختلف هذه الإجراءات إلى البروتوكول الذي يتم وفقه التجريب، ويستهدف كل هذه الإجراءات التحقق من صحة الفرضيات واختبار التنبؤات التي تستنبط منها
5ـ- وهكذا خلصت.. إلى هذه القضية العامة ... ومؤداها أن كل الحيوانات ...
مرحلة الاستنتاج أو صياغة القانون العلمي الذي يتضمن بالضرورة نوعا من التعميم:لم يجر كلود برنار تجاربه سوى على الأرانب والخيول لكنه عمم نتائج التجريب على كل الحيوانات العاشبة
في مقام آخر من كتابه مدخل لدراسة الطب التجريبي، يجمل كلود برنار بنفسه المراحل السابقة محددا خصائص التجريب العلمي قائلا إن عقل العالم يوجد دوما بين ملاحظتين:
الملاحظة الأولى تسمح للعالم بالتعرف على الظاهرة ومعاينتها، وتولد في ذهنه سلسلة من الاستدلالات هدفها تفسير الوقائع الملاحظة بواسطة مجموعة من المبادئ والفرضيات ثم تصور عدة تجريبية لاختبارها
الملاحظة الثانية تواكب التجريب وتعقبه، حيث يقوم العالم بمعاينة النتائج التي أحدثها تدخله في الظاهرة المدروسة لكي يسجل جواب الظاهرة على سؤاله
خلاصة:
يتضح من هذا المثال أنه إذا كانت التجربة بمعناها العام هي مايحدث لنا فإن التجريب العلمي هي ما يحدثه العالم، الذي لا يكتفي بالإنصات للواقع بل يستنطقه محدثا خللا في الظاهرة المدروسة ومسجلا ردود أفعالها؛ وإذا كانت التجربة تلقيا، فإن التجريب حوار.
و عن هذا الحوار، يقول بريغوجين وستانجر في مؤلفهما المشترك "العهد الجديد، تحولات العلم":
نص ستانجر وبريغوجين : الحوار التجريبي
أثبت العلم الحديث قدرته على أن يقيم وبشكل منهجي حوارا تجريبيا مع الطبيعة. وهذا الحوار التجريبي ممارسة فاعلة وليس مجرد ملاحظة سلبية. إذ يتعلق الأمر بإعادة إخراج الواقع الفيزيائي وتشكيله ليتطابق ما أمكن مع الوصف النظري. يتم ذلك من خلال تحضير الظاهرة المدروسة وتنقيتها وعزلها إلى أن تطابق وضعية مثالية غير متحققة فيزيائيا ولكن معقولة من حيث أنها تجسيد للفرضية النظرية التي توجه مختلف الاجراءات التجريبية. وهكذا فالعلاقة الوثيقة بين التجربة و النظرية تنجم من كون التجريب يخضع السيرورات الطبيعية لاستنطاق لايكتسب كامل معناه إلا انطلاقا من فرضية تتناول المبادئ التي تخضع لها هذه السيرورات وبالنظر إلى مجموعة من الافتراضات الأولية المتعلقة بسلوكات لايعقل نسبتها إلى الطبيعة
ILYA PRYGOGINE ISABELLE STENGERS, LA NOUVELLE ALLIANCE, METAMORPHOSE DE LA SCIENCE, Gallimard 1979 p 48
وباختصار شديد:أين يكمن التقابل إذن؟
إنه قائم بين موقف تجريبي منفعل وموقف تجريبي فاعل (التجريب)، بين صدمة الفكر أوإنصاته للعالم الخارجي وهجومه عليه واستنطاقه إياه
تناقض قائم قائم بين تجربة تحدث لنا وتجريب يحدثه العالم
كما لو أن التجارب الجمالية والروحية والعاطفية ... هي نماذج لتجربة منفعلة في حين أن التجريب هو تجربة فاعلة
إشكاليةالمحور الثاني: العقلانية العلمية
نعود مرة أخرى إلى عبارة "علم تجريبي" لنتساءل: إذا كان التجربة هي مايميز العلم، فما حظ العقل ؟ وماذا طبيعة هذا العقل، أي ماطبيعة العقل العلمي ؟
تبين لنا في المحور الأول أن التجريب العلمي حوار، يتأسس على خطة وافتراضات، أي على بناء نظري /عقلي يتم على ضوئه مساءلة التجربة وتأويل أجوبتها
نريد في هذا المحور أن نركز أكثر على طبيعة العقل ووظائفه كما تفرزهما الممارسة العلمية، وكذا التأمل أيضا في نمط اشتغال العقل داخل ذلك الحوار التجريبي الذي تقيمه العلوم الحقة مع الطبيعة
ماطبيعة العقلانية العلمية؟ قبل أن تجيب الابستملوجيا المعاصرة على هذا السؤال، فقد أجاب عنه تاريخ الفلسفة من قبل، فيما يسمى بالنزعة العقلانية وخصيمتها التجربيبة، مما يفرض علينا سؤالا إضافيا: إذا كنا نتحدث اليوم عن عقلانية علمية، فما الفرق بينها وبين العقلانية أي ذلك المذهب الفلسفي المعروف؟
1- هل العقلانية العلمية نسخة معدلة للعقلانية الفلسفية أو المذهب العقلاني؟
بعد أن خفت الحماس التجريبي الذي واكب انبعاث العلم الحديث، ومع الاعتماد المتزايد على الصياغة والمعالجة الرياضية، ومع فقدان الموضوع الفيزيائي لطابع الشيئية في الميكروفيزياء...، انبعث مجددا مايسميه إينشتاين بحلم القدماء والمقصود به قدرة العقل على معرفة قوانين العالم الفيزيائي: ماذا يستطيع العقل متمثلا في البناء الرياضي أن يعرف؟ هل الرياضيات أداة كشف أم مجرد أداة للتعبير والصياغة؟
يوجد شبه إجماع بأن العقلانية العلمية تنفصل تماما عن العقلانية الفلسفية الكلاسيكية في صيغتها المكتملة والشامخة مع كانط، من حيث تخليها النهائي عن فكرة العقل كمضمون أو كبنية سطاتيكية مغلقة ونهائية قوامها مبادئ فطرية أو قبلية خار ج التاريخ. ولكن هل يعني ذلك قطيعة تامة بين العقلانيتين؟
ولكن إذا ماخلصنا العقلانية الكانطية من الطابع القبلي لمقولات العقل، فإن العقلانية العلمية كما فهمها إينشتاين والكثير من الإبستملوجيين الفرنسيين ليست سوى إنجاز أومواصلة للمشروع الذي وضعه كانط في مقدمة الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص، في قوله: "لايرى العقل إلا ماينتجه هو وفق خططه الخاصة، وأن عليه أيضا أن يرغم الطبيعة على أن تجيب على أسئلته، لا أن ينقاد بحبال الطبيعة وحدها."
ويترجم روبير بلانشيه الوجه الجديد للعقلانية في هذه العبارات: “هكذا يعمل العقل على جعل التجربة تتوافق مع مفهوم النظام القبلي الذي يبدو في ظاهره مفهوما مناقضا للتجربة، شريطة أن ينزع العقل عن القبلي مايتضمنه من إطلاق وثبات، لئلا يستبقي من القبلية سوى فكرة وجود شرط يفرضه العقل بإيعاز من التجربة، من أجل تفسير معطيات هذه التجربة”
(مباهج ص 74)
نص إينشتابن: الطابع المبدع والخلاق للعقلانية العلمية
يدافع إينشتاين في النص التالي عن الطابع الابداعي للعقلانية العلمية ويضع المبدأ الخلاق في العقل والرياضيات مادام تاريخ العلم الحديث يشهد بأن الطبيعة أجابت دائما على أسئلة مصاغة بلغة رياضية؛ ويلتقي بذلك مع التصورات الابستملوجية التي لم تعد تعتقد في قدرة التجريب وحده على التحليل السببي للظواهر.
لاينكر إينشاتن أهمية التطابق مع التجربة كمعيار لتحديد فائدة الإنشاءات العقلية التي تظل بدون ذلك مجرد بناءات عقلية حرة، بيد أنه لايخفي مع ذلك ثقته في قدرة العقل على معرفة قوانين العالم الفيزيائي وتقديم صورة أكثر دقة عن هذا العالم الذي يشبه ساعة يدوية لاسبيل إلى فتحها، بل يتعين إنطلاقا من شكلها ومحيط دائرتها المتدرج وحركة العقارب والنبضات بناء أنساق ونماذج أقرب ماتكون إلى تمثيل الميكانيزم الداخلي المسؤول عن هذه المظاهر،
تبدو العقلانية العلمية مع أينشتاين تصديقا لحلم القدماء وطموحهم لفهم الواقع إنطلاقا من الفكر الخالص.،
نص أينشتاين : العقل الخالص قادر على معرفة الواقع
إن كانت التجربة في بداية معرفتنا للواقع وفي نهايتها فأي دور يتبقى للعقل في العلم؟ إن نسقا كاملا من الفيزياء النظرية يتكون من مفاهيم وقوانين أساسية للربط بين تلك المقاهيم والنتائج التي تشتق منها بواسطة الاستنباط المنطقي وهذه النتائج هي التي يجب أن تتطابق معها تجاربنا الخاصة.
هكذا نكون قد عينا لكل من العقل والتجربة موقعه ضمن نسق الفيزياء النظرية، فالعقل يمنح النسق بنيته؛ أما معطيات التجرية وعلاقاتها المتبادلة فيجب أن تطابق بدقة نتائج النظرية.
وتستند قيمة مجموع النسق وتبريره على إمكانية ذلك التطابق فقط، وبالضبط، التطابق بين المقاهيم الأساسية والقوانين القاعدية، والا بقيت مجرد إبداعات حرة للعقل البشري دون أي مبرر قبلي سواء من طبيعة العقل البشري أو من أية طبيعة كانت.
وتمثل المقاهيم والقوانين الأساسية التي لا يمكن الدفع باختزالها المنطقي أكثر، الجزء الضروري في النظرية والذي لا يمكن استنباطه عقليا . ولا شك أن الهدف الأسمى لكل نظرية هو العمل على تبسيط وتقليص عدد تلك العناصر الأساسية غير القابلة للاختزال قدر الإمكان، دون أن يعني ذلك التخلي عن إمكانية تمثيل ولو معطى واحدا من التجربة تمثيلا ملائما ( .. .)
إنني متيقن أن البناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المقاهيم والقوانين التي تحكمها والتي تمكننا من مفتاح فهم الظواهر الطبيعية. طبعا يمكن للتجربة أن ترشدنا في اختيار المفاهيم الرياضية التي سنستعملها، إلا أنها لا يمكن أن تكون هي المنبع الذي تصدر عنه. صحيح أن التجربة تمثل معيار المنفعة الوحيد للبناءات الرياضية في للفيزياء، بيد أن المبدأ الخلاق الحقيقي يوجد في الرياضيات.
وبمعنى ما ، إني أصادق على أن الفكر الخالص قادر على فهم الواقع، كما كان يحلم بذلك القدماء.
A Einstein, sur la methode de la physique theorique 1933
Cité par L.Hansen-love et F. Khoddos , Philosophie erminale T1 Hatier 1989 p367
2- المعرفة العلمية معقولةولكنها ليست عقلانية
ولكن ألا يسقطنا موقف إينشتاين في مزالق تصور مثالي للعقلانية العلمية؟ وهو المنزلق الذي يتهدد كل التصورات العقلانية قديما وحديثا، وذلك عندما يعتقد أن للعقل قوة خاصة به، يكتشف بواسطتها القوانين العامة للعالم الفزيائي؟
ألا ينبغي التشديد بالمقابل على الخاصية التجريبية للعقلانية العلمية؟
يرى رايشنباخ أن المعرفة العلمية معقولة ، ولكنه ينكر أن تكون عقلانية إذا فهم من هذه الأخيرة ذلك المذهب الفلسفي الذي تجعل العقل مصدرا لمعرفة العالم الفيزيائي
إن المعرفة العلمية معقولة لأنها تستخدم العقل مطبقا على مادة الملاحظة، مادام أن الملاحظة التجريبية هي مصدر للحقيقة عند رايشنباخ وغيرهم من فلاسفة الوضعية المنطقية، لكنها ليست عقلانية لأنها لا تتخد العقل مصدرا للمعرفة التركيبية المتعلقة بالعالم. ويرى رايشنباخ أن القرنين التاسع عشر والعشرين قد هيأ أخيرا وسائل تنفيد برنامج الفلسفة التجريبية القائل بأن كل حقيقة تركيبية تستمد من الملاحظة وأن كل امايسهم به العقل في المعرفة ذو طبيعة تحليلية.
وإذا كانت نجاحات المنهج الفرضي الاستنباطي في الرياضيات وفي الفيزياء اللنظرية تغذي ضروب الثقة في العقل، فإن رايشنباخ لايفوته أن يعتبر علماء الرياضيات أكثر من غيرهم عرضة للسقوط في تصور صوفي مثالي للعقلانية العلمية لما يعاينونه في علمهم من نجاح لمنهج الاستنباط المنطقي والاستبصار العقلي المستغني عن الإدراك الحسي.
إن الرياضيات شأنها شأن المنطق معرفة تحليلية، بيد أن معرفة الواقع الفيزيائي تستدعي معرفة تركيبية لا غنى لها عن الملاحظة.
وهكذا ينتهي الوضعية إلى تصور "أقل عقلانية" للعقلانية العلمية
نص هانز رايشنباخ : المعرفة العلمية معقولة وليست عقلانية
يطلق على نوع الفلسفة التي تجعل العقل مصدرا لمعرفة العالم الفيزيائي إسم المذهب العقلي، وينبغي أن نميز بدقة بين هذا النمط، وكذلك الصفة المشتقة منه، وهي عقلاني، وبين لفظ معقول. فالمعرفة العلمية يتم التوصل إليها باستخدام مناهج معقولة لأنها تقتضي استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة. غير أنها ليست عقلانية، إذ أن هذه الصفة لاتنطبق على المنهج العلمي، وإنما على المنهج الفلسفي الذي يتخد من العقل مصدرا للمعرفة التركيبية المتعلقة بالعالم، ولايشترط ملاحظة لتحقيق هذه المعرفة.
وفي كثير من الأحيان يقتصر إسم المذهب العقلي في الكتابات الفلسفية، على مذاهب معينة في العصر الحديث، بينما يطلق على المذاهب ذات النمط الأفلاطوني اسم المثالية تمييزا لها عن السابقة. على أننا سوف نستخدم اسم المذهب العقلي، بالمعنى الواسع دائما، بحيث يشمل المثالية. ويبدو أن لهذا الجمع ما يبرره، لأن نوعي الفلسفة متماثلان من حيث إنهما ينظران إلى العقل على أنه مصدر مستقل لمعرفة العالم الفزياثي. . . ويبدو من المفهوم أن العالم الرياضي يكون أكثر من غيره تعرضا للتحول إلى المذهب العقلي. ذلك أنه حين يدرك مدى نجاح الاستنباط المنطقي في مجال لا يحتاج إلى الرجوع إلى التجربة .. تكون النتيجة نظرية للمعرفة تحل فيها أفعال الاستبصار العقلي محل الإدراك الحسي، ويعتقد فيها أن للعقل قوة خاصة به، يكتشف بواسطتها القوانين العامة للعالم الفزيائي. وعندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة، لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة . فإذا كان في استطاعة العقل أن يخلق المعرفة ، فإن بقية النواتج التي يخلقها الذهن البشري يمكن أن تعد بدورها جديرة بأن تسمى معرفة . ومن هذا المفهوم ينشأ مزيج غريب من النزعة الصوفية والنزعة الرياضية .
هانز رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكرياء. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت - ط 2 - 1979 ص: 40 - 41 نقلا عن "مباهج الفلسفة"
خلاصة:
رأينا أن التفكير في طبيعة العقلانية العلمية يقود إلى مراجعة الطابع القبلي الثابت لمبادئ العقل، لكنه يفتح مجددا السجال بين النزعتين العقلانية والتجريبية وقد اتخدت هذه الأخيرة إسم الوضعية
المحور الثالث: معايير علمية النظريات
لنتأمل للمرة الأخيرة عبارة "علم تجريبي" ولنسأل أنفسنا: متى تكون نظرية ما علمية؟ والجواب البديهي: عندما تطابق الواقع، ويتم التحقق منها بواسطة التجربة
وهو جواب صحيح إلى حد بعيد، مادام الواقع الذي يحاوره العلم من خلال التجريب هو موضوع وهدف النظريات العلمية. ولكن، بأي معنى يتم التحقق من النظريات العلمية، وهل هذا التحقق ممكن في جميع الأحوال؟ وماهي حدود التحقق إذا علمنا أن التعميم الذي يميز القوانين التتي توحدها النظرية قائم على استقراءات ناقصة؟ ألا ينبغي القول أن معيار صلاحية النظرية هو قابليتها للتكذيب وصمودها في وجه اختبارات ممحصة تستهدف تزييفها باستمرار؟
ولكن لماذا تطرح الإبستملوجيا، أصلا، السؤال حول علمية النظريات ؟
عندما ترغب في تمييز العلم عن اللاعلم
يظهر ذلك عند الوضعيين في رغبتهم تمييز العلم عن الميتافيزيقا
وكذا عند كارل بوبر في رغبته تمييز العلم عن أشباه العلم مثل الماركسية والتحليل النفسي
1- تكمن صلاحية النظرية العلمية في اجتيازها الناجح لاختبار التحقق التجريبي
يتحدد معيار صلاحيتها انطلاقا من وظيفتها: لايقبل دوهيم كغيره من الوضعيين إسناد مهمة التفسير للنظرية، لأن التفسير -كما يدل على ذلك الأصل اللاتيني لهذه الكلمة - يقتضي من النظرية أن تكشف النقاب عن الواقع الحقيقي الذي يتوارى خلف المظاهر التي تكممها وتربط بينها القوانين التجريبية. وبذلك تقع النظرية تحت سلطان الميتافيزيقا!!
إذا لم يكن درو النظرية هو التفسير فمادورها إذن؟
يتوقف دور نظرية عليمة جديرة بهذا النعت عند مستوى الوصف، بحيث تعبر بأكبر مايمكن من الدقة والبساطة عن مجموعة من القوانين التجريبية، وبذلك
فإن مهمة النظرية الفيزيائية ووظيفتها هي اقتصاد المجهود الذهني ، وإضفاء النظام على القوانين التجريبية ، وجعلها أسهل تناولا .ولو أخدنا فيزياء البصريات على سبيل المثال، سنجد أن الاختزال والبساطة توجدان على مستوى القانون التجريبيي ذاته الذي يقيم علاقة رياضية بين الشعاع الساقط والشعاع المرتد والمستوى، مختزلا بذلك حالات إنعكاس الضوء اللامتناهية، ثم يزداد التوحيد والتبسيط مع النظرية البصرية therie optique التي تجمع مختلف قوانين الظواهر البصرية
إذا صح أن النظرية وصفية، فمامن شك في أن معيار صلاحيتها يتحدد أساسا في تطابقها مع ماتدعي وصفه ، أي في اجتيازها الناجح لاختبار التحقق التجريبي؛ بيد أن دوهيم لايهمل معيار الاتساق المنطقي في مرحلة الصياغة والمعالجة الرياضية لمبادئ ومكونات النظرية وربط الفرضيات بالمبادئ...، بيد أن قيمة هذا الاتساق تتحدد في نهاية المطاف بمدى تطابق النتائج مع القوانين التجريبية آخدين بعين الاعتبار ماتسمح به أدوات القياس من دقة نسبية. .
نص بيير دوهيم: وظيفة النظرية العلمية هو الوصف ومعيار صلاحيتها تطابقها مع ما تصف
نبدأ أولا بفحص الموقف الذي يجعل من التفسير غاية النظرية
الأصل اللاتيني لكلمة تفسير يعني تعرية الواقع من المظاهر التي تحجبه لرؤيته مباشرة وجها لوجه
[بيد أن ] ملاحظة الظواهر الفيزيائية لاتضعنا أمام واقع يختبئ خلف المظاهر الحسية، بل أمام هذه المظاهر نفسها منظورا إليها من زاوية خاصة وملموسة. والقوانين التجريبية لاتستهدف [حقيقة] الواقع المادي،بل هذه النظاهر نفسها لكن بشكل مجرد وعام
(...)
لو قبلنا أن النظرية الفيزيائية تفسير، فلن تبلغ هذه النظرية هدفها مالم تزح جانبا كل المظاهر الحسية لتمسك بالواقع الفيزيائي [الحقيقي[ وهكذا فأبحاصث نيوتن حول تشتت الضوء مثلا
إن اعتبار النظرية الفيزيائية كتفسير افتراضي للواقع المادي يترتب عنه جعل هذه النظرية تابعة للميتافيزيقا ، وبذلك فعوضا عن إعطائها شكلا تقبله مجموعة كبيرة من المفكرين، فإننا نجعل القبول مقتصرا على أو لئلك الذين يعترفون
بالفلسفة التي تدعي هذه النظرية الفيزيائية الانتماء إليها (...)
ألا يمكننا أن نعين للنظرية الفيزيائية موضوعا تصبر بمقتضاه مستقلة آعن كل ميتافيزيقا ؟ (...)
ألا يمكننا ، لبناء نظرية فيزيائية، إيجاد منهج مكتف بذاته ؟ (...)
إن النظرية الفيرياثية ليست تفسيرا . إنها نسق من القضايا الرياضية المسنبئطة من عدد قليل من المبادئ، غايتها أن تمثل تماما وببساطة، وبصورة صحيحة، ما أمكن ذلك، مجموع القوانين التحريية. ولتدقيق هذا التعريف نقوم بتحديد خصائص العمليات المتتالية الأربع التي تكون النظرية الفزيائية :
ا . من بين الخصائص الفيزيائية التي نقترح عرضها ، نختار تلك التي ننظر إليها كخصائص بسيطة والتي من المفروض أن تكون الخصائص الأخرى عبارة عن تجميعات أوتركيبات لها . وسنقابلها ، وذلك باستعمال طرق قياس ملآثمة، بما يناسبها من رموز رياضية، وأعداد، ومقادير. هذه الرموز الرياضية ليست لها أية علاقة طبيعية مع الخصائص التي تمثلها ، وانما لها معها علاقة دال بمدلول، وبواسطة طرق القياس يمكننا أن نقابل كل حالة فيزيائية بقيمة للرمز الممثل لها
والعكس بالعكس.
2 . نربط بين مختلف أنواع المقادير التي أدخلت هكذا بواسطة عدد قليل من القضايا تسختدم كمبادئ لاستئنطاتها ، هذه المبادئ يمكن تسميتها فرضيات، بالمعنى الأصلي للكلمة، لأنها في الحقيقة أسس سيقوم عليها بناء النظرية . لكنها لا تدعي بأي حال من الأحوال التعبير عن العلاقات الحقيقية بين الخصائص الواقعية للأجسام. هذه القضايا يمكن إذن أن توضع بطريقة اعتباطية. والحاجز الوحيد الذي لا يمكن تخطيه مطلقا هو التناقض المنطقي إما بين حدود نفس الفرضية، واما بين مختلف فرضيات نفس النظرية.
3 . إن مختلف مبادئ وفرضيات نظرية ما تتركب فيما بينها حسب قواعد الاستنباط الرياضي، وخلال هذه العملية لا يكون العالم الفيزيائي مطالبا إلا بإرضاء مقتضيات المنطق الجبري. إن المقادير التي تقع عليها حسابات العالم الفيزيائي المذكور لا تدعي بتاتا أنها وقائع فزيائية، والمبادئ التي يستند إليها في استنباطاته لا يمكن أخذها على أنها تعبير عن علاقات حقيقية بين هذه الوقائع. فغير مهم إذن أن تكون العمليات التي ينجزها تتناسب أولا تتناسب مع التغييرات الفزيائية الواقعية (...)
4 . إن مختلف النتائج التي استخرجناها هكذا من الفرضيات يمكن ترجمتها إلى ما يناسبها من أحكام تتعلق بالخصائص الفزيائية للأجسام ؛ والمناهج الخاصة بتعريف وقياس هذه الخصائص الفيزيائية تكون بمثابة اللغة أو المفتاح الذي يسمح بتلك الترجمة، هذه الأحكام نقارنها مع القوانين التجريبية التي تروم النظرية تمثيلها ، فإذا توافقت الأحكام مع القوانين تكون النظرية قد أصابت هدفها وأثبتت صلاحيتها ، والا كانت غير صالحة ومن ثم وجب تعديلها أو رفضها .
وهكذا فالنظرية الصحيحة ليست كك التي تعطي عن المظاهر الفيزيائية تفسيرا مطابقا للواقع، بل النظرية الصحيحة هي التي تعبر بطريقة مرضية عن مجموعة من القوانين التجريبية. والنظرية الفاسدة ليست محاولة تفسيرية معتمدة على فرضيات مناقضة للواقع، بل هي عبارة عن مجموعة قضايا لا تتوافق مع القوانين التجريبية
إن الاتفاق مع التجربة يشكل بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة.
إن التعريف الذي قمنا بعرضه بصفة مجملة يميز في النظرية الفيزيائية أربع عمليات أساسية.
( . تعريف المقادير الفيزيائية وقياسها .
2 . اختبار الفرضيات.
3 . الاستنتاجات الرياضية من النظرية.
4 . مقارنة النظرية بالتجربة.
بيير دوهيم النظرية الفيزيائية موصوعها وبنياتها منشورات ريفيير 1914 ص ص. 23-26
1- تكمن صلاحية النظرية العلمية في قابليتها للتكذيب
يبدو معيار الاختبارية أو التحقق التجريبي معيارا مقبولا لولا أن تاريخ العلم نفسه يشهد بأن هذا الشرط لاتستوفيه النظريات العلمية دوما
يرى كارل بوبر أن الوقائع لا تفرز النظريات بل تحد من عددها، أي تكشف زيف النظريات الخاطئة أكثر مما تكشف صحة التظريات الصحيحة. وتلتقي هذه الفكرة مع ملاحظة إينشتاين مفادها أن التجربة تجيب دائما على الأسئلة التي نطرحها عليها بــ "لا" وأحيانا "ربما"
ويتلخص مبدأ قابلية التكذيب في أن كل تعميم علمي ( تجريبي ) ـ فرضا كان أو نظرية أو نسقا ـ يعتمد على استقراءات ناقصة غير تامة، فيكون قابلا للتكذيب من حيث المبدأ ، طالما أنه من الممكن منطقيا ، وجود قضية أو عدة قضايا تجريبية ، تند عن ذلك التعميم أو لا تكون مواتية له ، بحيث لو صدقت لاستلزم ذلك كذب التعميم. وهكذا فعبارة "كل البجع أبيض" الصادقة في حالات كثيرة لاتستبعد منطقيا إمكانية العثور على بجعة سوداء تزيف ذلك التعميم .
وطالما أن النظريات العلمية هي من قبيل التعميمات الكلية ، فلا يمكن منطقيا البرهنة على صحتها ، ولكن يمكن فقط إظهار أنها كاذبة . واختبار النظرية إنما يعني وضعها موضع المخاطرة . والمخاطرة لا تكمن في التنبؤ إيجابيا بوقائع معينة، بل استبعاد حدوث وقائع أخرى باعتبارها غير ممكنة الوقوع فإذا ما حدث عكس ذلك بالفعل، فانه ينبغي في هذه الحالة رفض النظرية أو إعادة صياغتها من جديد.
إن النظرية لاتكون علمية إلا إذا تضمنت تنبؤا بإمكانية حدوث وقائع معينة واستبعادا لحدوث وقائع أخرى ؛ بمعى آخر ينبغي أن تنص النظرية العلمية على أن طائفة من الوقائع لايمكن أن تحدث
ولو حدثت هذه الوقائع فذلك يعني تزييف النظرية
وهذا شر ط لاتستوفيه نظريتا التحليل النفسي والماركسية مثلا لأنهما تسعيان إلى إدماج وتأويل كل الوقائع الممكنة تحت معطف النظرية، بحيث لاتوجد واقعة تند عن التفسير الذي تقترحه مثل هذه النظريات
نص كارل بوبر : معيار قابلية التكذيب
أن كل عالم يدعي أن الملاحظة أو التجربة تدعم نظريته يجب أن يكون على استعداد لأن يطرح على نفسه السؤال التالي: هل أستطيع وصف أي نتائج محتملة للملاحظة أو التجربة، والتي إذا بلغناها بالفعل، يمكن أن تفند نظريتي ؟ إذا لم يكن هذا ممكنا، فمن الواضح أن نظريتي ليست نظرية تجريبية.أنه إذا اتفقت كل الملاحظات المتصورة مع نظريتي، فلن يجوز لي حينئذ الزعم.بأن أي ملاحظة معينة تعطي تدعيما تجريبيا لنظريتي. أو باختصار، لن أستطيع الزعم بأن نظريتي لها خاصية النظرية التجريبية، إلا إذا كنت أستطيع أن أقول كيف يمكن تفنيد نظريتي أو تكذيبهإ (01)ء .
وهذا المعيار للتمييز بين النظريات التجريبية والنظريات اللاتجريبية قد أطلقت عليه أيضا معيار القابلية للتكذيب أو معيار القابلية للتفنيد . ولا يتضمن هذا أن النظريات غير القابلة للتفنيد كاذبة. ولا يتضمن أنها خلو من المعنى. على أنه يتضمن أن نظرية معينة تعد واقعة خارج مجال العلم التجريبي، قدر ما لا تستطيع وصف كيف يمكن أن يأتي التفنيد المحتمل لها.
معيار القابلية للتفنيد أو القابلية للتكذيب يمكن أيضا أن نطلق عليه معيار القابلية للاختبار. ذلك أن اختبار النظرية، تماما كاختبار جزء من آلة ميكانيكية، يعني محاولة تبين العيب فيها . وبالتالي، فإن النظرية التي نعرف مقدما أنه لا يمكن تبيان العيب فيها أو تفنيدها هي نظرية غير قابلة للاختبار (02)ء. وينبغي أن نستبين بجلاء أن هناك أمثلة عديدة في تاريخ العلم لنظريات تكون غير قابلة للاختبار في مراحل معينة من تطور العلم لكنها تغدو قابلة للاختبار في مرحلة لاحقة (03)ء
(...)
إن معيار القابلية للتفنيد، أو القابلية للتكذيب، أو القابلية للاختبار مجرد خطوة أولى لحل مشكلة بيكون.(04) وكما رأينا ، تقطع هذه الخطوة بأن يسأل العالم الذي يدعي أن الملاحظة أو التجربة تدعم نظريته: هل نظريتك قابلة للتفنيد؟ وما هي التجربة أو الملاحظة التي قد تتوقعها كتفنيد لها ؟
إذا كانت الإجابة عن هذين السؤالين مرضية؟ حينئذ، وحينئذ فقط يمكن أن نستأنف المسير لقطع الخطوة الثانية في حلنا لمشكلة بيكون إنها تتلخص في الآتي: يمكن قبول الملاحظات أو التجارب كتأكيد للنظرية (أو الفرض، أو التقرير العلمي) فقط إذا كانت هذه الملاحظات أو التجارب اختبارات قاسية للنظرية، أو، بعبارة أخرى، فقط إذا ما كانت قد نجعت عن محاولات جادة لتفنيد النظرية، وخصوصا عن محاولة اكتشاف العيوب حيثما نتوقعها في ضوء معارفنا بأسرها، بما فيها معارفنا بالنظريات المنافسة. وأعتقد أن هذا، من حيث المبدأ ، يحل مشكلة بيكون.
يتلخص الحل في الآتي: الاتفاق بين النظرية والملاحظة لا يعد شيئا ما لم تكن النظرية قابلة للاختبار،(05) وما لم يكن الاتفاق قد تم التوصل إليه كنتيجة لمحاولات جادة لاختبار النظرية. على أن اختبار النظرية يعني محاولة إيجاد نقاط الضعف فيها . إنه يعني محاولة تفنيدها . وتكون النظرية قابلة للاختبار إذا كانت (من حيث المبدأ) قابلة للتفنيد (06)ء
كارل بوبر، أسطورة الإطار ترجمة يمنى طريف الخولي ، سلسلة عالم المعرفة ع292 يناير 2003 الكويت ص ص 115-117
العلوم الإنسانية
بين يدي الإشكال: مقدمة لابد منها- العلوم الإنسانية بين الفلسفة والعلوم الحقة:
هذه بعض الأبجديات التي سنستخدمها مرارا في الدرس، فوجب استيعابها منذ البداية
صحيح أن العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع أو علم النفس أو الانثربلوجيا أو الاقتصاد، حديثة النشأة في القرن التاسع عشر، بيد أن الدراسات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية قد وجدت دوما مبثوثة في ثنايا المصنفات الفلسفية؛ بل إننا إذا تأملنا علما إنسانيا خاصا هو علم التاريخ نجده علما عريقا عراقة علم الرياضيات نفسه. ولكننا نلاحظ أيضا أن علم التاريخ نفسه ورغم عراقته لم يطرح وجوده أية إشكالية منهجية أو ابستملوجية إلا منذ القرن الثامن عشر. لماذا؟
لقد تزامن ذلك مع الميلاد الحديث للعلوم التجريبية التي قدمت نموذجا باهرا للعلمية سواء من حيث دقة المناهج والنتائج أو نجاعتها لما وفرته من قدرة على التحكم في الظواهر الطبيعية، ولن يكف هذا النموذج عن ممارسة تأثيره وجاذبيته منذ ذلك الوقت.
هكذا سيكون وجود العلوم الإنسانية موسوما منذ البداية بالتوتر بين قطبين، موجودان أصلا في الاسم نفسه "علوم / إنسانية"
-"علوم" يحيل هذا المكون بشكل لا مفر منه على العلوم التجريبية التي تمثل كما أسلفنا- النموذج المثالي للعلمية؛
"إنسانية": يحيل هذا النعت إلى الفلسفة من حيث أن هذه الأخيرة تتخذ بدورها الإنسان كموضوع لها
ويتضح ذلك في الجدول التالي:
طرح أولي للإشكال:
هل تستطيع العلوم الإنسانية أن تنأى عن الفلسفة ؟ وفي هذه الحالة هل ستسعى إلى التطابق مع العلوم الحقة؟ أم أنها ستزاوج بين مناهج الفلسفة ومناهج علوم الطبيعة؟ أم ستبدع لنفسها منهجها الخاص ها بحيث يلاءم خصوصية الظواهر الإنسانية؟
ماهي خصوصيات الظواهر الإنسانية أولا؟
ظواهر فريدة، غير قابلة للتكرار وما يستخلص من دراسة ظاهرة واحدة يصعب تعميمه لنذرة الظواهر المماثلة،
ظواهر معقدة، متعددة ومتداخلة الأبعاد يصعب عزلها بيسر أو تعيين دور كل منها في تحديد الظاهرة. والأبعاد المقصودة هي: البعد البيولوجي، الاجتماعي، الثقافي، النفسي، التاريخي، الاقتصادي...
إعادة صياغة الطرح الإشكالي:
إذا علمنا أن العلم، كيفما كان، يتحدد من خلال موضوع ومنهج. فيمكننا طرح إشكالية "مسألة العلمية في العلوم الإنسانية" من زاويتين: زاوية الموضوع وزاوية المنهج
إشكالية الموضوع: كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية و الدارس والمدروس معا هو الإنسان !
إشكالية المنهج: بعد أن تعين العلوم الإنسانية موضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أ ي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم الحقة، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟
المحور الأول: إشكالية موضعة الظاهرة الإنسانية
يقصد بالموضعة مختلف الإجراءات المنهجية الهادفة إلى تعيين ظاهرة ما أو طائفة من الظواهر كموضوع علمي متمايز عن الذات الدارسة.
كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية والدارس والمدروس معا هو الإنسان !
1-في سبيل موضعة الظاهرة الإنسانية:
غالبا ما تطرح إشكالية الموضعة في مرحلة نشأة علم ما، عندما ينشغل رواده بتعريف موضوع علمهم ليتسنى لهم دراسته. في هذا الإطار نفهم تعريف إميل دوركايم لموضوع السوسيولوجيا بوصفه مرافعة من أجل موضعة الظاهرة الإنسانية. يرى دوركايم أن هذه الموضعة ممكنة لأن الظاهرة الاجتماعية شيء كباقي الأشياء. وتعريف الشيء عنده هو الموجود وجودا خارجيا بحيث يعطى للملاحظة؛ ولذلك تنص أولى قواعد المنهج السوسيولوجي على معاملة الظواهر الاجتماعية كأشياء مادامت تتميز بالخارجية والوجود المستقل عن وعي الأفراد الذين يعونها ويتمثلونها ويخضعون لقسرها ولا يسعهم اختراعها أو تغييرها. وبذلك تتحقق مسافة وانفصال منهجي بين الذات ( عالم الاجتماع) و الموضوع وهو هنا الظاهرة الاجتماعية: إن ظاهرة الزواج مثلا أو الظاهرة الدينية وغيرها من ضروب السلوك والتفكير والشعور الاجتماعي لا توجد فقط خارج وعي الفرد، بل إنها تمتاز أيضا بقوة آمرة قاهرة بحيث تفرض نفسها على الأفراد.
وبذلك يظهر ان دوركايم يراهن على تحييد الوعي أي إفراغ الظواهر الإنسانية من خاصية الوعي ليتسنى موضعتها، لأن الوعي "عدو العلم" كما يقول ليفي شتروس
فقرة انتقالية: هل يكفي تعريف الظاهرة الاجتماعية / الإنسانية بالخارجية والقسر والاستقلال عن وعي الفرد لحل مشكلة الموضعة وتداخل الذات والموضوع؟
2- عوائق الموضعة
يرى جون بياجي أن موضعة الظاهرة أكثر تعقيدا نظرا لتداخل الذات والموضوع على أكثر من صعيد.
فالذات الملاحظة بقدر ما تلاحظ غيرها وتجرب على غيرها، فإنها في نفس الوقت تلاحظ ذاتها وتجرب على ذاتها، وينتج عن ذلك أن تفاعل الذات والموضوع في فعل الدراسة يؤثر في سير الظاهرة المدروسة مثلما يؤثر في الذات الدارسة
غالبا ما تكون الذات الدارسة حاملة لمعرفة عفوية، مسبقة وحدسية حول الظاهرة المدروسة. لأن الدارس وقبل أن يكون عالم اجتماع مثلا فهو فاعل اجتماعي يتعرض لتأثير المعرفة الاجتماعية المتداولة. نقول إذن إن تحقيق القطيعة الابستملوجية بين المعرفة العفوية والمعرفة العلمية ليس بالأمر اليسير كما هو حال في علوم الطبيعة
يضاف إلى كل ما سبق الالتزام الفلسفي أو الايديلوجي لعالم الإنسانيات بحيث قد يميل إلى التبرير أو الإدانة ويجانب الحياد فيتجاوز الوصف إلى التقييم، وهو ما يسمى بمشكلة "أحكام القيمة"
خلاصة: إن السعي الحثيث لعلماء الإنسانيات من أجل تعريف موضوع علمهم وتحيييد الوعي وابتكار تقنيات لتحقيق القطيعة مع المعرفة العفوية لدليل على خصوصية الموضوع وما تطرحه موضعته من عوائق.
المحور الثاني: العلوم الإنسانية أمام نموذج علوم الطبيعة: مشكلة الفهم والتفسير
بعد تعيين العلوم الإنسانية لموضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم التجريبية، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟
1- العلوم الإنسانية ومنهج التفسير:
يقصد بالتفسير هنا كشف العلاقات الثابتة الموجودة بين حادثتين أو أكثر، وإقامة علاقات سببية بينها بموجب ذلك. وهذا هو التفسير السببي، أما التفسير الغائي فقد أهمله العلم. ولايلائم التفسير السببي سوى الظواهر المتماثلة المطردة والقابلة للتكرار ليتم التعميم ( تفسير سقوط الأجسام بقانون الجاذبية)
وقد ارتبط منهج التفسير بالاتجاه الوضعي وخصوصا لدى المدرسة السوسيولوجية الفرنسية مع دوركايم ومارسيل موس. في محاولتها الرقي بعلم الاجتماع إلى مصاف العلم الدقيق بعيدا عن المناهج التأملية.
وبما أن التفسير يقوم – كما أسلفنا – على ربط ظاهرة بأخرى ربطا سببيا، فإننا نعثر في دراسة دوركايم لظاهرة "الانتحار" على حالة تكاد تكون نموذجية لمنهج التفسير في العلوم الإنسانية: فبناءا على إحصائيات الانتحار في عدد من الدول الأوروبية، خلص إلى أن معدلات الانتحار تتناسب عكسيا مع درجة التماسك الديني، لذلك ينتحر البروتستانت أكثر من الكاثوليك؛ و مع درجة التماسك الأسري، لذلك ينتحر العازبون أكثر من المتزوجين، والمتزوجون بدون أطفال أكثر من ذوي الأطفال؛ وأخيرا مع درجة التماسك السياسي، إذ ترتفع معدلات الانتحار في أوقات الهدوء السياسي والسلم الاجتماعي أكثر من فترات الحروب والأزمات الدبلوماسية .
مثال2: ينحصر موضوع علم النفس ، حسب المدرسة السلوكية، في دراسة السلوك الإنساني القابل للملاحظة، منظورا إليه كرد فعل على مثيرات قابلة للملاحظة بدورها، وكشف القوانين المتحكمة في علاقات المثيرات بالاستجابات، والامتناع عن صياغة فرضيات حول ما يقع داخل العلبة السوداء أي الوعي الإنساني
2-عوائق منهج التفسير وامكانيات منهج الفهم:
لقد لجأ دوركايم إلى المقاربة الإحصائية لظاهرة الانتحار من أجل غربلة المحددات الذاتية، والفردية للظاهرة والاحتفاظ فقط بالمكون الجمعي للظاهرة الذي يهم السوسيولوجيا، والذي يمكن الوصول بصدده إلى تفسير سببي قابل للتعميم.
ولكن ألا يؤدي تحليل الظواهر الإنسانية على غرار الظواهر الطبيعية إلى إفراغ الأولى من أهم مقوماتها، من مكونها الداخلي أي الدلالات والنوايا والمقاصد والاكتفاء بالمحددات الخارجية للفعل ؟
بهذه الأسئلة ننفتح على دعاة المنهج المقابل، منهج الفهم والذي صاغته عبارة ديلتاي الشهيرة: " إننا نفسر الطبيعة، لكننا نفهم ظواهر الروح"
ولكن ماذا نقصد أولا بالفهم؟
لأن الفاعل الإنساني يمنح دلالة لأفعاله وللعالم من حوله ويسلك وقف غاية من حيث هو كائن واع، فالمقصود بالفهم - في مناهج العلوم أو الميتودلوجيا - إدراك الدلالة التي يتخدها الفعل بالنسبة للفاعل، وتتكون هذه الدلالات من المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل وتتحدد بالقيم التي توجهه، وغالبا ما يتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة فعل "التأويل"، الذي اقترن ظهوره بالدراسات اللاهوتية في سعيها إلى استكناه مقاصد النصوص المقدسة ودلالاتها الخفية.
ويقدم لنا التحليل النفسي مثالا نموذجيا لعلم إنساني يكاد يعتمد كلية على الفهم بمعنى التأويل : إذ تُتناول مختلف الظواهر النفسية السوية منها والمرضية، بما في ذلك الأحلام كعلامات حاملة لدلالات يتعين تأويلها وذلك بتجاوز المعاني الظاهرة والمقاصد الواعية، لدرجة دفعت الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان التحليل النفسي علما أو فنا في نهاية المطاف !
أما في علم الاجتماع، فيقدم لنا ماكس فيبر في دراسته الرائدة حول "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" مثالا آخر لتطبيق منهج الفهم يتركيزه على القيم المشتركة بين كل من السلوك الرأسمالي والموقف الأخلاقي البروتستانتي. وليس غريبا أن يقع اختيار فيبر على ظاهرة فريدة هي نشأة الرأسمالية في أوروبا، لأن منهج الفهم لا يهدف أصلا إلى اكتشاف انتظامات أوعلاقات سببية قابلة للتعميم على نطاق واسع
- 3-حدود منهج الفهم وعوائقه:
يستدعي منا منهج الفهم بدوره بعض الملاحظات النقدية، وأهمها لامبالاته تجاه ضرورة التمييز، الذي يحرص منهج التفسير على إقامته، بين الذات والموضوع، ومادام الفهم ينصب على الدلالات ويقوم على ضرب من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الدارس وموضوع دراسته، ألا يخشى أن يسقط الدارس قيمه ودلالاته الخاصة على الظاهرة ؟ وكيف لنا آنذاك أن نميز بين دلالات الفعل لدى الفاعل/موضوع الدراسة ودلالاتها لدى الدارس؟
لعل هذا هو ما حذا بغاستون غرانجي إلى تشبيه منهج الفهم بالتفكير الأسطوري السحري حيث تسقط الذات خصائصها على الموضوع، وتنصهر فيه
خلاصة عامة للدرس:
بأي معنى وضمن أية شروط يمكن الحديث عن "علوم إنسانية" ؟ يحاول بعض علماء الإنسانيات استلهام مناهج العلوم الطبيعية التي أثبتت فعاليتها، بينما يرافع آخرون من أجل ابتكار منهج أصيل بدعوى عدم وجود معيار أو نموذج وحيد للعلمية. وبعبارة أخرى، يسعى البعض إلى الاستفادة من المكتسبات المنهجية للعلوم الحقة، بينما يجتهد آخرون لتأسيس نموذج مغاير للعلمية. إن هذه الإشكالات الميتودولوجية التي تعترض العلوم الإنسانية نابعة أساسا من خصوصية الموضوع وهو الظاهرة الإنسانية.
الحقيقة
المحور الأول: الحقيقة والرأي
تمهيد لفهم الإشكال:
ماهو التقابل أو المفارقة الموجهة لمسار تفكيرنا في هذا المحور؟
إذا كانت الحقيقة هي مطابقة الفكر لموضوعه، فماذا نقصد بالرأي؟
لا يقصد به في هذا المقام وجهة النظر الشخصية كما في قولك: " رأيي أن نقوم عوض أن نجلس" أي وجهة نظري أو موقفي، بل يقصد به فكرة أو تمثل أولي أو اعتقاد يعوزه اليقين في مقابل الحقيقة التي يفترض أنها يقينية مبرهن عليها بطريقة من طرق التدليل والاثبات والتحقق.
بيد أن العلامة المميزة للرأي كخطاب وكنمط من المعرفة هو كونه متداولا ومتاحا للجميع، وبهذا المعنى الأخير يغدو الرأي مرادفا للحس المشترك أي الفهم الطبيعي المشترك بين الناس، المتاح مباشرة لكل فرد دونما حاجة إلى دراسات متخصصة أو منهجية.
طرح الإشكال:
دأبت الفلسفة على تقديم نفسها كخطاب للحقيقة والحقيقة المنزهة عن الغرض بالخصوص، تلك التي تنتج عن مجهود عقلي وروحي خاص. وإذا كانت الحقيقة نقيضا للخطأ والوهم والظن والتسرع والأحكام المسبقة، فإن كل هذه الأضداد تجتمع تحت مسمى واحد: الرأي !
ولكن من يقيم هذه التقابلات أولا؟ هل هناك رأي يشير إلى نفسه باعتباره رأيا!؟ وهذه الحقيقة اليقينية الناتجة عن منهج وتدليل ومجهود عقلي، هل هي استمرار للرأي أم أنها تشكل قطيعة معه؟
معالجة الإشكال:
1- تسفيه الرأي: الحقيقة كقطيعة مع الرأي
يميز أفلاطون بين الحقيقة من جهة والرأي أو الظن أو الدوكسا من جهة ثانية بحيث أن الأولى مرادفة لليقين والجوهر بينما يرادف الرأي الوهم والمظاهر وتقدم لنا محاورة مينون مثالا لشخصين أولهما يعلم الطريق إلى مدينة "لاريسا" علم اليقين وسبق له أن زارها بينما لا يعلم الثاني هذا الطريق إلا من جهة السماع والتخمين. من الممكن أن يهتدي الثاني إلى الطريق. إن معرفته لا تتجاوز الرأي بيد أنه "رأي سديد" ، ولكن بينما يصل ذو العلم إلى مبتغاه على الدوام وبشكل يقيني، يمكن لصاحب الرأي أن يبلغ مبتغاه حينا ويضل عنه حينا آخر.
سيتخد الحذر من الرأي عند ديكارت طابعا منهجيا راديكاليا: تقع الحقيقة في نهاية سرداب يبدأ بالشروع ولو مرة واحدة في حياتنا في الشك في جميع الآراء التي تلقيناها وصدقناها وفي الأشياء التي نجد فيها أدنى شبهة من عدم اليقين بغية التخلص من الأحكام المسبقة و الآراء المتداولة التي تعجلنا في إطلاقها والتي تتشبت بأنفسنا بقوة.
وتستمر فكرة القطيعة بين الحقيقة و الرأي في الفلسفة المعاصرة وبالضبط في الابستملوجيا الباشلارية: الرأي دائما خاطئ، الرأي نوع من التفكير السيء، بل إنه ليس تفكيرا على الاطلاق. وليس تاريخ العلوم إلا تاريخ دحض وهدم مستمرين للرأي أو بالأحرى لبادئ الرأي الذي يعد واحدا من أقوى العوائق الابستملوجية ومن حيث كونه فكرا تفرزه الحياة اليومية الغارقة في البراغماتية، فإن الرأي يكتفي بترجمة الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها فيحرم نفسه بذلك من معرفتها.
فقرة انتقالية: لأن الفلسفة لا تتوانى عن وضع كل شيء موضع تساؤل بما في ذلك نفسها وادعاءاتها، فلامناص من أن نتساءل: ما "حقيقة" القطيعة بين الحقيقة والرأي؟ إذا كانت الحقيقة تفضل الرأي بكونها مبناة وفق منهج ودليل، ألا تقوم بعض الحقائق بدورها على اعتقادات وآراء لا سبيل للبرهنة أو التدليل على صحتها؟ هل يصح أن نقارب علاقة الحقيقة الفلسفية بالرأي كمقاربتنا لعلاقة الحقيقة العلمية به؟
2- إعادة الاعتبار للرأي: أوجه الاستمرارية بين الحقيقة والرأي
يعتبر الاسكتلندي توماس ريد (1710-1796) مؤلف "بحث في الفكر الانساني وفق مبادئ الحس المشترك" من الفلاسفة القلائل الذين سعوا صراحة إلى اعادة الاعتبار إلى مقولات الحس المشترك وبداهاته والتي يرى أن افتراضاتها لا تقل قبولا عن الافتراضات الميتافيزية لأغلب المذاهب الفلسفية. بل إنها تتضمن من الصواب أكثر ما تحويه النظريات الفلسفية المنافسة والمبخسة لها. كما أن ما يدخله الفلاسفة في عداد الرأي او الحس المشترك أقدر ببداهاته على مقاومة مذاهب الشك الهدامة أكثر مما تستطيع أنساقهم الفلسفية نفسها. وتتميز اعتقادات الحس المشترك حسب توماس ريد بكونيتها، إذ لا يماري فيها سوى بعض الفلاسفة والحمقى، وببداهتها إذ أن نكرانها يوقع في التناقض
وقد في نفس الإطار يندرج كتاب جورج توماس مور (1873–1958) " دفاع عن الحس المشترك"
ويذكر فيتجنشتاين في كتابه "في اليقين" أزيد من 300 من القضايا والاعتقادات التي لا يكاد يتطرق إليها الشك ولم يجر أبدا التحقق أو التفكير في التحقق منها، بل ويستحيل التحقق من بعضها شخصيا كالاعتقاد بأن للناس أدمغة في جماجمهم أو أن هذين هما والدي فعلا وأن لي أجدادا وأسلافا وأنه توجد قارة تدعى استراليا...تدخل هذه القضايا وغيرها ضمن ما يسميه فيتجنشتاين بــ "صورة العالم" وهي أساس لكل ما أبحث عنه وأود تأكيده لاحقا وكل القضايا التي تريد وصف تلك الصورة غير خاضعة بدورها للتحقق. وبذلك يتطابق الرأي مع البداهات والحدوس الأولية التي يملكها الفرد عن العالم
خلاصة: ماحقيقة التعارض بين الحقيقة والرأي؟
مما لا مراء فيه أن الحقيقة في العلم الذي يزداد موضوعه تخصصا ومناهجه دقة، تتعارض في أحيان كثيرة مع الرأي والحس والمشترك؛ والدوران البادي للشمس حول الأرض خير دليل على ذلك، ولكن ماذا عن حقائق الحياة اليومية والحقائق الأخلاقية والسياسية، وهي المجالات التي تنازع فيها الفلسفة الحس المشترك المشروعية وتنعته بالرأي؟
نسجل أولا أن الرأي أو الحس المشترك ليس كونيا أو لازمنيا كما اعتقد طوماس ريد، بل هو منتوج ثقافي يترجم القيم السائدة في حقبة أو مجتمع معين. ألم يكن الرق في وقت من الأوقات مقبولا من قبل الحس المشترك كممارسة لا غبار عليها من الناحية الأخلاقية ؟
ولكننا نسجل من جهة أخرى ميل الديمقراطيات الحديثة إلى إعادة الاعتبار للرأي فيما يسمى بالرأي العام واستطلاعات الرأي وكأن القرار السياسي أو الاقتصادي أو الأخلاقي الحق والصائب ليس سوى جماع الرأي السائد والمتداول على أوسع نطاق. قد نفسر ذلك بتعذر الحديث عن حقيقة يقينية في هذه المجالات التي يسود فيها الاحتمال والترجيح le plausible، ولأن الرأي والحس المشترك لم يعد مجرد اعتقادات ساذجة، بل اصبح "رأيا متنورا" منذ اختراع المطبعة وصولا إلى ثورة وسائل الإعلام. فهل يعني ذلك أن الفيلسوف مضطر تجنبا لتهمة النخبوية لعقد مصالحة بين الحقيقة كما ينشدها والرأي الذي طالما عمل على ازدرائه وتسفيهه؟
المحور الثاني: معايير الحقيقة
طرح الإشكال:
المعيار لغة هو المكيال أو وحدة أو مرجع القياس، نقول "عاير الميزان" إذا قايسه وامتحنه بغيره لمعرفة صحته، وعيار الشيء ما جعل قياسا ونظاما له. ونستعملها هنا بمعنى الشرط أو العلامة المميزة، فيكون التساؤل عن معيار الحقيقة تساؤلا عن العلامة التي تسمح بالتعرف على الفكرة الحقيقة وتمييزها أو الشرط الذي إن توفرت في فكرة ما نعتت بالحقيقة
لايتعلق الأمر هنا بالبحث عن معيار الحقيقة؟ بل بالبحث في إمكانية الحديث عن معيار بصيغة المفرد أو عن معيار كوني: أمام تعدد مواضيع الفكر الإنساني، ما وجاهة التساؤل عن معيار الحقيقة ؟
معالجة الإشكال:
1- محاولة لتحديد معيار كوني : الوضوح والتميز
عندما ينخرط المرء في مغامرة الشك الشامل وفي عملية مسح الطاولة، لابد له من معيار أو علامة يهتدي بها إلى بر الحقيقة من جديد حسب التعبير المجازي لهيغل. ولما كان هدف الفلسفة حسب ديكارت هو كشف المبادئ الأولى التي تستنبط منها كل معرفة ممكنة، وجب وضع معيار شامل لفحص حقيقة هذه المبادئ المؤسسة وما يستنبط منها.
لننظر في الكوجيطو مثلا: لا يمثل الكوجيطو الحقيقة الأولى في النسق الديكارتي فحسب، بل يقدم لنا نموذج الحقيقة بامتياز: فهو حقيقة بسيطة واضحة استخرجها الفكر من ذاته. لذلك يشترط في جميع الحقائق أن تكون حقائقا أولية بسيطة يدركها الفكر بالحدس بكل وضوح وتميز أو حقائقا مركبة مشتقة منها عن طريق الإستنباط. وبعبارة أخرى، فالحقائق إما موضوع حدس إذا كانت أفكارا ومعان عقلية بسيطة، بديهية وفطرية يدركها العقل مباشرة؛ أو موضوع استنباط إذا كانت أفكارا وقضايا مركبة ومشتقة. وفي جميع الأحوال فالحقيقة صفة ذاتية للفكرة ولا تخرج عن دائرة الفكر وكأن الأفكار الحقيقية تحمل في ذاتها دليل حقيقتها، لذلك يقول اسبينوزا : " الحقيقة معيار ذاتها كالنور يعرف بذاته وبه يعرف الظلام " ولعل ذلك صادق بالخصوص بالنسبة لحقائق الرياضيات حيث لا يهتم الفكر إلا بالتطابق مع ذاته أي احترام مبادئه ومعاييره.
2- لاوجود لمعيار كوني إلا بالنسبة للحقائق الصورية
بخلاف ديكارت واسبينوزا اللذين اعتقدا في وجود معيار كوني للحقيقة بصفة عامة، لا يمكن حسب كانط الحديث عن معيار كوني للحقيقة إلا بصدد الحقائق الصورية، فمادامت المعرفة تتطلب مادة وصورة: حدوسا حسية ومقولات عقلية، فإن الأحكام التي تتضمن حدوسا حسية وهي الأحكام التركيبية لا يمكن معرفة حقيقتها بمجرد تحليل مكوناتها أو النظر فيها بذاتها، لابد أن نتأكد من مطابقتها لموضوعها وهو مادتها. وهكذا وبتأمل القضايا الثلاث التالية "السماء غائمة ، " الوقت متأخر" ، " جميع المعادن تتمدد بالحرارة" نجد ثلاث أحكام لكل منها موضوع وفي كل مرة ينبغي فحص الموضوع/الواقع للتأكد من مطابقة الحكم له . والمواضيع تتعدد إلى ما لانهاية، لذلك يستحيل العثور على معيار كوني شامل للحقائق المادية أو لنقل للأحكام التركيبية.
لننظر الآن في الحقائق الرياضيات والمنطق : لا يتضمن هذان العلمان أحكاما متعلقة بالعالم الخارجي، ولذلك يكفي لفحص صدق أحكامهما النظر في عدم تناقضها مع قواعد العقل والاستدلال أو المنطق أي في صحة صورتهما .غير أن المنطق لا يستطيع أن يذهب بعيدا : فما من محك بوسعه أن يتيح للمنطق كشف الخطأ حين يتعلق الأمر بمادة المعرفة وليس بصورتها
المحور الثالث: قيمة الحقيقة
طرح الإشكال:
قيمة الشيء هي تلك الصفة التي تجعله موضع تقدير أو اهتمام أو رغبة او احترام. وعلى هذا الأساس نصوغ إشكالية قيمة الحقيقة على النحو التالي: لماذا نطلب الحقيقة ونرغب فيها ؟ مالذي يجعل الحقيقة محط نقاش وجدال وادعاء؟ هل تطلب الحقيقة لذاتها أم كوسيلة لنيل غايات تتجاوزها؟ هل تتمتع الحقيقة بقيمة أخلاقية أم بمجرد قيم أداتية
معالجة الإشكال:
1- القيمة الأداتية للحقيقة: نموذج التصور البراغماتي
يتساءل وليام جيمس (1842-1910) عن وظيفة الحقيقة وعن الغاية من امتلاك أفكار صحيحة ويجيب بكل بساطة: أن امتلاك الحقيقة ليس غاية في حد ذاته بل مجرد وسيلة يتوصل بها إلى إشباع حاجات حيوية، إنه يكافىء امتلاك أدوات ثمينة للعمل. وبعبارة أوجز: الحقيقى هو المفيد
ذلك هو التصور البراجماتي لقيمة الحقيقة، حيث يتوقف صدق القضية على قدرتها على تمكيننا من تناول الواقع ذهنيا أو عمليا وتوجيهنا بنجاح نحو الإستفادة من وجودنا، ونحن كما يقول برغسون نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما نخترع الأجهزة الصناعية لتسخير القوى الطبيعية. إن الحقائق ليست أكثر من مخترعات نافعة ووسائل مفيدة في تصور الأشياء واستخدامها؛ بل إن الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859-1952) يرى في نشأة التفكير العقلي عند النوع البشري استجابة لدواع عملية براغماتية وهي الرغبة في الحياة والبقاء، لأنه يسمح للإنسان بصنع شيء أوإنجاز فعل على نحو أفضل مما لو اعتمد على الغريزة والإندفاع وحدهما. وعليه، يعلن ديوي أن الفكرة التي لا تستهدف عملا يمكن إنجازه ليست فكرة بل ليست شيئا على الإطلاق إلا أن تكون وهما في ذهن صاحبها. وإذن، فليس للحقيقة من قيمة مطلقة، بل مجرد قيمة وظيفية عملية ونسبية بالضرورة.
2- الحقيقة كقيمة أخلاقية مطلقة: سقراط، كانط
ولكن ألا نسقط مرة أخرى في القول بتعدد الحقائق بتعدد وتعارض المنافع الفردية؟ ألا تنتهي البراغماتية إلى تصور لاأخلاقي تبرر فيه الغاية الوسيلة، مادام الصواب و الخطأ صفتان مؤقتتان متغيرتان ترتبطان بالنافع والضار أكثر من ارتباطهما بمبادئ عامة مجردة، ومادام أن الحقيقة لاتمثل غاية في حد ذاتها، بل مجرد وسيلة وأداة.
على العكس من التصور البرغماتي، تقدم لنا سيرة سقراط وفلسفته تصور أخلاقيا للحقيقة. فلم تكن غاية التفلسف عند سقراط تعلم المهارة الجدلية أو الحذق أو تكديس المعارف في الذهن، بل تدريب النفس على اكتساب الفضيلة، وبذلك تتطابق الحقيقة والكمال الأخلاقي، لقد كانت الحقيقة غاية في حد ذاتها، تعاش بصفة شخصية كما لاحظ كيركجارد، ولم يكتف سقراط بأن عاش الحقيقة فحسب، بل مات من أجلها! بمعنى ألا شيء مقدم على الحقيقة، بما في ذلك حياة المرء نفسها !
نجد نفس القيمة المطلقة اللامشروطة عند كانط حيث تتحول الحقيقة أو بالأحرى قول الحقيقة والصدق إلى واجب أخلاقي في ذاته، واجب مطلق غير مشروط ولايعرف الاستثناءات بغض النظر عن الظروف والملابسات حتى أنه يرفض حجة بنيامين كونسطان القائلة بأن قول الحقيقة ليس واجبا إلا نحو من لهم الحق أو يستحقون معرفة الحقيقة. ومادام كانط يقيس أخلاقية الفعل بمدى قدرتنا على تعميمه لجعله قانونا كونيا، فإن شرعنة الكذب تعني تعميمه أي تجريد التصريحات أو الأقوال من أية مصداقية وتجعل جميع الحقوق المؤسسة على العقود والوعود باطلة ولاغية وهذا ظلم وجور في حق الإنسانية جمعاء.
ماذا عنا نحن؟
غالبا ما تتعامل الذات مع الحقيقة بشكل براغماتي في أغلب مواقف الحياة، لكنها تطالب الغير بالتعامل مع الحقيقة.
الدولة
المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها
طرح الإشكال:
السلطة ظاهرة محايثة للاجتماع البشري. ومادامت السلطة تقتضي الامتثال والخضوع، فإنها تحتاج دوما إلى تبرير وشرعنة، بما في ذلك سلطة الأب على أبنائه! هكذا يجد كل ذي سلطة نفسه مطالبا دائما بتبرير سلطته، وعندما تتخذ السلطة شكل دولة، فإنها تواجه بدورها سؤال التبرير والمشروعية:
لماذا الدولة؟ وما غايتها؟ ما علاقتها بالأفراد المكونين لها؟ هل تستمد الدولة من الفرد مبدأ وجودها أم أن الفرد هو الذي يستمد من الدولة مبدأ وكمال وجوده؟ هل الدولة في خدمة الفرد أم الفرد في خدمة الدولة؟
معالجة الإشكال:
1- موقف التصور التعاقدي والمذهب الفرداني: الفرد غاية الدولة
للبحث في مشروعية الدولة وتعيين غاياتها يلجأ التصور التعاقدي إلى البحث أولا في منشئها، انطلاقا من فرضية حالة الطبيعة. يقول لوك: " لكي نفهم السلطة السياسية فهما صحيحا ونستنتجها من أصلها ينبغي أن نتحرى الحالة الطبيعية التي وجد عايها جميع الأفراد" هنا تظهر الدولة كمجرد اتحاد بين أفراد يتمتعون بحقوق طبيعية سابقة زمنيا على ظهور الدولة رغبوا لهذا السبب أو ذاك في تيسير العيش المشترك، وأولى حقوقهم هي إرادتهم التي جسدوها في هذا العقد. ينتج عن ذلك أن لا حقيقة ولا وجود للدولة قبل الفرد، الفرد مقدم و سابق عليها، منه تستمد مبرر وجودها ومن ضمان مصالحه تشتق غاياتها. ولذلك يقترن التصور التعاقدي أحيانا بالمذهب الفردي وأحيانا أخرى بالليبرالية
ماذا ينتظر من الدولة؟ وما غاياتها؟
يميز جون لوك بين الخيرات المدنية والخيرات الدينية أو نجاة الأرواح. وتتمثل الأولى في خيرات ذاتية كالحياة والحرية وسلامة البدن وخيرات خارجية كالأرض والنقود وما سواها من الممتلكات، أما الخيرات الدينية فهي تقوى النفس ونجاتها من الضلال والشقاء الأبدي في الآخرة. و اختصاص الدولة بوصفها سلطة مدنية يقتصر على حماية الخيرات المدنية أما ترامي سلطانها إلى الخيرات الدينية فلن ينجم عنه سوى الحرب وتقويض السلم المدني
2- موقف التصورات الكليانية: الدولة غاية ذاتها
بيد أن تقديم الفرد على الدولة - كما رأينا مع التصور التعاقدي والليبرالي- لا يعني عند بعض الفلاسفة سوى خراب هذه الأخيرة! إذ كيف يعقل أن يستمد مبدأ الكل من الجزء والدائم من العرضي؟
تتمثل غاية الدولة عند أفلاطون في تحقيق السعادة، لا بوصفها سعادة الفرد، بل بوصفها نظام وانسجام الكل: وعليه لا يعدو الأفراد عن كونهم مجرد لوالب في جوف هذه الآلة الضخمة المسماة دولة، يقومون بمهام تتناسب وطبائعهم التي ولدووا بها، ينتجون وينجبون ويحاربون من أجل الدولة. فلا قيمة لرغباتهم أو مسراتهم أو أحزانهم أو عواطفهم إلا بما يحقق لهذه الأخيرة النظام والانسجام.
وفي العصر الحديث، يرفض "هيجل" بدوره التصور التعاقدي السابق لكونه يجعل غاية الدولة "خارجية " عندما يحصرها في تحقيق السلم والحرية وحماية ممتلكات الأفراد. فالدولة بهذا المعنى ستكون مجرد وسيلة لتحقيق أهداف خارجة عنها، أهداف يعتبرها "هيجل" خاصة بالمجتمع المدني، كمجال لإشباع حاجيات الأفراد اليومية والانتاج الاقتصادي وللتنافس بينهم في ظل تعارض مصالحهم الخاصة، في حين أن الدولة تمثل غاية في ذاتها بوصفها تجسيدا للمطلق. و ككيان ينتزع الفرد من الخصوصية والأنانية ليسمو به إلى مستوى الكونية ويحقق اكتماله الأخلاقي، وذلك لأنها هي الجوهر الأخلاقي وقد وصل إلى الوعي بذاته.
نخلص إلى أن هيغل يقدم الدولة على الفرد ويجعلها سابقة على الأسرة والمجتمع المدني نفسيهما لأن فكرتها محتوية لهذين العنصرين معا: ففي حضن الدولة فقط تستطيع الأسرة أن تتحول إلى مجتمع مدني.
ويبدو أن الماركسية لم ترث عن الهيغيلية منهجها الدياليكتيكي فحسب، بل تصورها الكلياني للدولة بإسم أولوية الجماعة على الفرد، وانتهت إلى صهر هذا الأخير وإلغائه لصالح الدولة وأجهزتها البيروقراطية والبوليسية: لقد غدت الدولة فعلا غاية في ذاتها وهذا ما تجلى واضحا في بعض الأشكال الواقعية للدولة في الكثير من البلدان الاشتراكية ودول العالم الثالث
المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية
طرح الإشكال:
وفق أي منطق وبموجب أي مبدأ تمارس السلطة السياسية؟ هل يمكن أن تنضبط هذه السلطة للمبادىء الأخلاقية، أم أن منطق العمل السياسي وإكراهاته يتعارض كليا مع منطق الأخلاق وإلزاماتها وقيودها، على أساس أن السياسة مجال الممكن، والأخلاق مملكة الواجب؟ ماهي غاية الفعل السياسي؟ الفضيلة أم الفعالية ؟
معالجة الإشكال:
1- التصور الأخلاقي لطبيعة السلطة السياسية: السياسة رفق واعتدال
بتأثير من أرسطو، وإلى حدود الفلسفة الحديثة، سيطرت على الفلسفة السياسية مقولة الاعتدال ضمن تصور يعتقد في وحدة الأخلاق والسياسة على أساس أن السياسة هي المجال الأوسع للممارسة الأخلاقية وأنها كمال الفلسفة العملية بوصفها تدبيرا للمدينة يتوج تدبير النفس و تدبير للمنزل معا. وقد عبر عن ذلك أستاذه أفلاطون حينما تمنى أن يكون الحاكم فيلسوفا أو أن يصير الفلاسفة حكاما ليحصل الجمع بين السلطة والحقيقة، مادام الفلاسفة على حد تعبير أفلاطون هم أصدقاء وحلفاء الحقيقة والعدالة والشجاعة والعفاف، أصحاب العقول المولعة دائما بالعلم الذي يتناول الدولة بكاملها ليقيم تنظيمها الداخلي على أفضل وجه ممكن مستلهما قوانين الجمال والخير والعدل
في إطار هذا التصور الأخلاقي للمجال السياسي وللسلطة السياسية، يوصي ابن خلدون أن تكون العلاقة بين السلطان والرعية مبنية على الرفق في التعامل: فقهر السلطان للناس وبطشه بهم يؤدي إلى إفساد أخلاقهم، بحيث يعاملونه بالكذب والمكر والخذلان، أما إذا كان رفيقا بهم ، فإنهم يطمئنون إليه ويكنون له كل المحبة والاحترام، ويكونون عونا له أوقات الحروب والمحن.
كما يتوجب عليه التحلي بالاعتدال الذي هو الوسط بين الذكاء بما هو إفراط في الفكر والبلادة بما هي إفراط في الجمود مثلما أن الكرم وسط بين التبذير والبخل، والشجاعة وسط بين التهور والجبن من جهة أخرى.
← هكذا فإن ابن خلدون يحدد طبيعة السلطة السياسية في التشبث بمكارم الأخلاق المتمثلة أساسا في الرفق والاعتدال. ولكن إلى أي حد تستطيع الأخلاق أن تنسجم وطبيعة السلطة السياسية في الممارسة العملية؟
2- التصور البراغماتي الواقعي لطبيعة السلطة السياسية:
أحدث كتاب "الأمير" قطيعة مع الفلسفة السياسية السابقة ذات المنحى الطوباوي المثالي، فلم يعد السؤال عند ميكيافيلي هو "كيف تمارس السلطة وفق المبادئ الأخلاقية أو الدينية؟" ، بل السؤال هو: "كيف يمكن الحصول على السلطة والمحافظة عليها؟" لذلك ينصح ميكيافليي الأمير باستخدام طريقتين من أجل تثبيت سلطته السياسية: الأولى تعتمد القوانين ولكنها غير موفية بأغراض الحكم، أما الثانية فتعتمد على القوة والبطش، جنبا إلى جنب مع المكر و الدهاء. وإذا استخدمنا استعارة لا تخلو من دلالة من مملكة الحيوان، فعلى الأمير أن يكون أسدا قويا لكي يرهب الذئاب، وأن يكون ثعلبا ماكرا لكي لا يقع في الفخاخ.
وقد تبين من شواهد التاريخ حسب ميكيافلي أن هناك أمراء أصبحوا عظماء دون أن يلتزموا بالمبادئ الأخلاقية السامية، كالمحافظة على العهود مثلا، بل قد استخدموا كل وسائل القوة والخداع للسيطرة على الناس والتغلب على خصومهم.
يعترف ميكيافيلي بأن مبادئ السلطة السياسية التي يبشر بها ستكون شريرة، ولكن في حالة واحدة وهي تلك التي يكون فيها جميع الناس أخيارا ! والواقع أنهم ليسوا كذلك، ومن ثم لا يلزم أن ينضبط الأمير للمبادىء الأخلاقية في تعامله معهم، بل لا بد أن تكون له القدرة الكافية على التمويه والخداع، وسيجد من الناس من ينخدع بسهولة. وقد صور شكسبير بشكل رائع سهولة انخداع العامة في مسرحية "يوليوس قيصر" حيث تناوب الخطيبان بروتوس وأنطونيوس على تجييش مشاعر العامة لصالحه رغم أن أولهما قاتل قيصر والثاني صديقه المنادي بالثأر له !!
هكذا يتبين أن السياسة، مع ماكيافيلي، تنبني على القوة والمكر والخداع.
المحور الثالث: الدولة بين الحق والعنف
طرح الإشكال:
يمثل العنف العدو المعلن لكل دولة. فما من دولة في الماضي أو الحاضر إلا ورفعت شعار استتباب الأمن والنظام والعدالة والحق ، وبعبارة أخرى محاصرة نواتج العنف من رعب وفوضى وظلم ، ولكن هل يمكن للدولة أن تحاصر العنف وتواجهه إلا بعنف مضاد أشد هولا ؟ وفي هذه الحالة كيف نضمن مشروعية هذا العنف وقد غدت الدولة خصما وحكما في نفس الوقت ؟
معالجة الإشكال:
1- الدولة واحتكار الاستعمال المشروع للعنف
من المفيد في البداية أن نرفع بعض اللبس: لا تمثل الدولة المصدر الوحيد للعنف، فالمجتمع ينتج ويفرز بدوره عنفه الخاص، سواء تعلق الأمر بالعنف المعزول للأفراد كالمجرمين أو عنف الجماعات ضد بعضها البعض بسبب الطابع الانقسامي للمجمتع ( انقسامه إلى طبقات اقتصادية، أحزاب سياسية، إثنيات، مشجعي الفرق الرياضية...)
ورغم أن الدولة تعلن العنف عدوها اللدود، فإنها لا تستطيع مع ذلك مواجهته إلا بمثله أي بعنف مضاد، ولذلك لم يجد ماكس فيبر من خاصية يعرف بها الدولة غير هذه الخاصية: "احتكار الاستعمال المشروع للعنف". صحيح أن العنف ليس الوسيلة الوحيدة للدولة لكنه وسيلتها الخاصة بحيث تقوم بينها وبينه علاقة حميمة، خصوصا بالنسبة للدولة المعاصرة التي خلقت لنفسها طبقة بيروقراطية ينفصل فيها المنصب عن الموظف الذي يسميه فيبر "خادم الدولة الحديثة"، فغدت الدولة من حيث هي أجهزة متمايزة عن المجتمع، مما اقتضى تجريد جميع أفراد المجتمع وهيئاته من حق استخدام العنف: وهكذا لم يعد هناك سيد ليجلد عبده أو إقطاعي يعاقب أقنانه، أو زوج ليضرب زوجته وأبناءه، وتزامن كل ذلك مع نزع الطابع العنيف عن العقوبات القضائية الماسة بالسلامة الجسدية والاكتفاء بتلك العقوبات السالبة للحرية.
2- الدولة والعنف: علاقات ملتبسة
لا مراء في أن الدولة المعاصرة تدعي لنفسها قانونيا احتكار الاستعمال المشروع للعنف، ولا يوجد اعتراض على مبدأ الاحتكار في حد ذاته، بيد أن ممارستها لهذا الشيء المحتكر لا تخلو واقعيا من مفارقات حتى في أكثر الدول ديموقراطية.
تتعلق المفارقة الأولى بثنائية الشرعية والمشروعية: من اليسير على الدولة أن تثبت أن العنف الممارس ضد فرد أو جماعة كان شرعيا محتجة بحفظ النظام أو استباق المخاطر... ولكن هل كان عنفا مشروعا؟ بل هل كان ضروريا؟ وفي هذه الحالة، هل مورس ضمن الحدود التي لا تتعارض فيها مع حقوق الإنسان وكرامته؟
تقحمنا هذه الأسئلة في قلب المفارقة الثانية المتعلقة بكمية العنف اللازم لمواجهة عنف الأفراد والجماعات: كيف يمكن تقدير كمية العنف لوقف عنف مشجعي فريق رياضي غاضبين؟ هل يحتاج الأمر إلى عنف أكبر من عنفهم أم أقل منه أو مساو له ؟ تلك هي الأسئلة التي تواجه السلطة القضائية باستمرار.
ومن جهة أخرى، وبسبب احتكارها وتكديسها لوسائل وتقنيات العنف المعززة بتكنلوجيا تزداد تطورا يوما بعد يوم، تتحول الدولة إلى نوع من الليفياتان/التنين، إلى عنف بدون حق خصوصا في غياب إمكانية اللجوء إلى قاض ضمن فصل واضح للسلطات.
وأخيرا فإن احتكار الدولة للعنف المشروع لا يكتسي كامل معناه عند فيبر إلا من واقعة استقلالها عن المجتمع وتناقضاته، ولكن ما حقيقة استقلال الدولة عن المجتمع وحيادها؟ هل تقتصر وظيفتها على التنظيم والتدبير المحايدين والمستقلين عما يعرفه المجتمع من نزعات وانقسامات وتناقضات؟
تشكك الماركسية في هذه الاستقلالية المزعومة، لتخلص أن العنف المحتكر من قبل الدولة لن يكون مشروعا أبدا في ظل مجتمع منقسم طبقيا. ذلك إن تناقض المصالح الطبقية وما ينجم عنه من صراع يهدد بتيديد المجتمع قد فرض الحاجة إلى الدولة كسلطة عليا تضع نفسها ظاهريا فوق المجتمع لتقلل من حدة الصراع وتبقيه ضمن حدود النظام أي فرملة التناقضات القائمة بين طبقات المجتمع. غير أن الدولة وقد تولدت في قلب الصراع، فلن تكون سوى دولة الطبقة المسيطرة اقتصاديا وأداة أخرى من أدوات تيسير مهمة الاستغلال بالوسائل العنيفة ان اقتضى الأمر. إنها عنف طبقة ضد أخرى.
العنف
تمهيد لفهم إشكالات الدرس:
عن العنف: ننطلق في هذا الملخص من تعريف العنف كما وردفي"المعجم الفلسفي" لــ "جميل صليبا": "كل فعل يخالف طبيعة الشيء، ويكون مفروضاً عليه، من خارج فهو، بمعنى ما، فعل عنيف. والعنيف هو أيضاً القوي الذي تشتد صورته بازدياد الموانع التي تعترض سبيله كالريح العاصفة، والثورة الجارفة"
المحور الأول: أشكال العنف
طرح الإشكال:
هل تقتصر أشكال العنف على العنف المادي الفيزيائي العضلي كما يظهر للوهلة الأولى أم تشمل أيضا أشكالا من العنف الخفي الرمزي و اللطيف؟ ولكن كيف للعنف أن يكون خفيا لطيفا دون أن يفقد صفته كعنف والحال أن سمة العنف هو القوة التي تكسر كل مقاومة !؟ هل العنف محتاج للتخفي والتنكر ؟
1- العنف المادي: عنف على منوال الطبيعة ولكنه يتجاوزها
لا تعرف الطبيعة غير العنف المادي، وحيث أن الإنسان كائن طبيعي بدوره، ذو جسم وعضلات، فإن أحد أشكال العنف التي يمكن تصورها هي اصطدام هذه الأجسام والعضلات بهدف كبح حركة بعضها البعض أو إلحاق الأذى بها. يقول فرويد: " كانت القوة العضلية الأكثر تفوقا هي التي تقرر من يملك الأشياء ومن تسود إرادته، وسرعان ما أضيف إلى القوة العضلية واستعيض عنها باستخدام الأدوات: فالفائز هو من يملك الأسلحة الأفضل أو يستخدمها بالطريقة الأمهر. ومن اللحظة التي أدخلت فيها الأسلحة بدأ التفوق العقلي يحل محل القوة العضلية". لقد أصبحت الأدوات وهي استمرار لأعضاء الجسم أدوات العنف المادي الفعال بلا منازع، وقد ساهمت التكنولوجيا كما يقول إيف ميشو YVES MICHAUD في تطوير وسائل هذا العنف المادي مستفيدا من تحول هذه الوسائل إلى سلع تخضع ككل سلعة إلى مبدأ الربح في إنتاجها وتبادلها، وهكذا عملت التجارة الدولية للأسلحة على نشر وسائل العنف وجعله أكثر تخريبا وفتكا، وفي متناول كل الأفراد والجماعات. كما ساهم التقدم التقني في تطوير الآلات والأسلحة المستخدمة في العنف، مما جعل هذا الأخير مختلفا عما كان عليه في السابق، سواء من الناحية الكمية أو من الناحية الكيفية والنوعية.
بيد أن العنف المادي ومهما بلغ جبروت وسائله يظل عنفا مكلفا للطرفين لأنه يستدعي مقاومة متناسبة مع القوة الأولية وفق مبدأ الفعل ورد الفعل في الفيزياء. مما يضطر العنف إلى التخفي لتكون نتائجه أبلغ تأثيرا وأقل تكلفة خصوصا إذا ضمن تواطؤ الضحايا: إنه عنف يخفي عنفه ! مما يفسر تخلي الدول الاستعمارية مثلا عن الغزو العسكري لصالح غزو ثقافي أكثر تأثيرا وأقل انكشافا.
2-العنف الرمزي: عنف يتخفى ليضمن تواطؤ الضحايا
يتحدث بيير بورديو عن العنف الرمزي الذي هو عنف غير فيزيائي، يتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة و الإيديولوجيا، وهو شكل لطيف وغير محسوس من العنف، و غير مرئي حتى بالنسبة لضحاياهم أنفسهم. وينتقد بورديو الفكر الماركسي الذي لم يول اهتماما كبيرا للأشكال المختلفة للعنف الرمزي، مهتما أكثرا بأشكال العنف المادي والاقتصادي. كما أشار بورديو إلى أن العنف الرمزي يمارس تأثيره حتى في المجال الاقتصادي نفسه، فالسلع المعلن عنها عبر الإشهار في وسائل الإعلام أو المعروضة في واجهات المتاجر بقدر ما تؤجج الرغبة، بقدر ما تمارس عنفا اقتصاديا وإنهاكا مستمرا للقدرة الشرائية العاجزة أصلا.
إن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم. ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به كعنف؛ بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل داخل المجتمع. وعلى سبيل المثال، فالعنف يتسلل حتى إلى قلب العلاقات العاطفية بين الجنسين، إذ يرى عالم الاجتماع الأنجلييزي غيدنز أن المرأة كانت في الماضي بمنزلة أحد المنقولات في حيازة الرجل ومن ثم عوملت بالعنف الذي تقتضيه هذه الحيازة، غير أن الاحترام والحب يمكن أن يكون أيضا صورة من صور الهيمنة الأقوى أكثر من استخدام القوة المجردة. فلقد عوملت المرأة الفاضلة بروح المودة والتصديق والتقدير لتستمر في إلزام نفسها بالفضيلة والعفة في المجتمع الأبوي!
ومن هذه الزاوية يمكن، حسب بورديو فهم الأساس الحقيقي الذي تستند إليه السلطة السياسية في بسط سيطرتها وهيمنتها؛ فهي تستغل بذكاء التقنيات والآليات التي يمرر من خلالها العنف الرمزي، والتي تسهل عليها تحقيق أهدافها بأقل تكلفة وبفعالية أكثر، خصوصا وأن هناك توافقا بين البنيات الموضوعية السائدة على أرض الواقع وبين البنيات الذهنية الحاصلة على مستوى الفكر.
وفي سعيه الدؤوب إلى إخفاء نفسه كعنف، قد يتخد أيضا شكل عنف طقوسي أو مقدس، عندما يصبح جزءا من طقوس أو شعائر دينية: صحيح أن القرابين تقتصر اليوم على الأضاحي الحيوانية لكنها كانت في ما مضى قرابين بشرية. فياله من عنف يواري باتخاده شكل التقوى والقربات للآلهة !
المحور الثاني: العنف في التاريخ
طرح الإشكال:
كان قتل قابيل لهابيل أول حدث يقصه علينا القرآن الكريم و يكسر حالة اللاحدث التي أعقبت نزول سيدنا آدم إلى الأرض، ليكون بذلك أول حدث عرفه تاريخ الإنسانية. ما دلالة أن يستفتتح التاريخ الإنساني بحادثة قتل وعنف؟ هل كان العنف مجرد فاتحة للتاريخ كما توحي بذلك هذه الواقعة؟ أم أنه استمر ملازما للصيرورة التاريخية؟ وكيف للعنف أن يضطلع بدور في التاريخ رغم أنه خراب وهدم وإفناء ؟
هل العنف مجرد ظاهرة عابرة و نتيجة لأسباب محددة كما تذهب إلى ذلك الماركسية حين أرجعت أصل العنف إلى التفاوت الطبقي ؟ أم أنه على العكس من ذلك عنف مؤسس و محايث للتاريخ الإنساني؟
1-العنف المؤسس و المدشن للتاريخ: طوماس هوبز، فرويد
ماذا نقصد بكون العنف مؤسسا و مدشنا للتاريخ؟ نقصد بذلك أن ما هو إنساني، ما يميز الإنسان عن الحيوان من قبيل المؤسسات والأخلاق والتقديس... لا يظهر إلا عقب العنف وبفضله.
أسوة بباقي منظري العقد الاجتماعي، يتصور هوبز أن الإنسانية مرت بحالة الطبيعة قبل ولوجها حالة الاجتماع. ولما كان العدوان والحذر والتنافس غالبا على طبيعة الإنسان لدرجة تجعل منه ذئبا لأخيه الإنسان، فإن حالة الطبيعة المذكورة، وفي غياب سلطة عليا، تتحول إلى حالة حرب الكل ضد الكل، أي حالة من العنف المعمم الذي يحيل حياة الإنسان إلى حياة حيوانية بئيسة لا ينعم فيه أحد بالأمن والأمان مهما بلغت قوته، وحتى في الحالة التي يهدأ في الاقتتال ظاهريا فإنه يظل مخيما على شكل إرادة صراع واضحة ومؤكدة، مثل سحابة كثيفة مخيمة تنذر بالعاصفة والمطر.
في مثل هذه الأحوال ولد الاجتماع و الدولة كخيار قسري للخروج من حالة العنف المعمم، فيكون العنف بذلك مؤسسا للتاريخ إذا افترضنا أن هذا الأخير لا يبدأ إلا مع الاجتماع و المؤسسات والدولة.
إن العنف لا يدشن التاريخ السياسي فحسب كما رأينا مع هوبز، بل التاريخ الأخلاقي والديني أيضا: يخبرنا فرويد في كتابيه: "الطوطم والطابو" و " موسى والتوحيد" بأن قتل الأب هي الواقعة التي تؤرخ لبداية المؤسسات وحظر المحارم وقواعد التحريم بصفة عامة: لقد كان هذا الأب ذكرا قويا، أبا للعشيرة مستحوذا على نسائها، مقصيا باقي الذكور من أبنائه، الذين لم يجدوا أمامهم من حل سوى الاتحاد لقتله و "أكله". ولكن مشاعر الذنب التي أعقبت قتله ومشاعر الخوف من عودته وانتقامه، دفعتهم إلى تحويله إلى طوطم أي تمثال أو رمز للعبادة، كما حرموا على أنفسهم القتل و التشبه بالأب في الاستحواذ الجنسي على الأم وبناتها أي حظر المحارم... وهي على الجملة عماد الحياة الأخلاقية والدينية.
هكذا يبتبدى العنف كحدث مؤسس للتاريخ، كظاهرة قبل-تاريخية، تسبق التاريخ وتفتتحه، ولكن ألا يمكن للسيرورة التاريخية نفسها أن تفرز العنف أثناء نموها ؟
2- العنف كظاهرة عابرة في التاريخ: الماركسية
خلافا لهوبز و فرويد، فالعنف لم يظهر حسب ماركس إلا كنتيجة للانقسام الطبقي الذي أعقب المشاعة البدائية، وبعبارة أخرى فالصراع الطبقي هو المولد لظاهرة العنف في التاريخ. يقول ماركس: " لم يكن تاريخ أي مجتمع لحد الآن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات، لقد كان المضطهدون والمضطهدون في حالة تعارض ومواجهة وأقاموا بينهم حروبا لا تتوقف تنتهي بتغيير المجتمع برمته أو هلاك الطبقتين المتصارعتين معا"
وفي مسرح الصراع هذا، تغير المتصارعان المتواجهان و لكن الصراع ظل قائما: نجد في المجتمع الروماني القديم طبقتين متمايزتين: هما السادة والفرسان من جهة والأقنان والعبيد من جهة أخرى. كما نجد في القرون الوسطى السادة والشرفاء من جهة، والأقنان والحرفيون العاديون من جهة أخرى؛ وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث، نجد البورجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) في مقابل البروليتاريا. ولن يتسنى إلغاء هذا الصراع العنيف إلا بإلغاء أسبابه ودواعيه وهي الطبقية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، عندها سيحل استغلال الإنسان للطبيعة محل استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. ولكن ألن تصبح هذه الأخيرة موضوعا و ضحية للعنف بدورها !؟
بين ماركس إذن أن العنف مجرد ظاهرة تاريخية ناتجة عن الصراع الطبقي الذي هو المحرك الأول لعجلة التاريخ، والمسؤول عن الصيرورة التاريخية والعامل الحاسم في الانتقال من نمط إنتاجي لآخر لدرجة أن انجلز يشبه الصراع بالمرأة القابلة التي تستطيع توليد مجتمع ولو كان هرما La violence est l' accoucheuse de toute vielle societé! وهذا ما دفع بالماركسيين إلى شرعنة ما يسمى بــ "العنف الثوري" أي تلك الأشكال من العنف التي تستهدف تقويض النظام وبث الفوضى في أوصاله وتخريب بنيته التحتية و منشئاته للتعجيل بزواله عندما تعجز الآليات الديمقراطية عن تحقيق الانتقال المنشود.
المحور الثالث: العنف والمشروعية
ترتد إشكالية العنف والمشروعية في نهاية التحليل إلى إشكالية الدولة بين الحق والعنف التي سبق أن عالجناها في المحور الثالث من درس الدولة، وذلك لأن مشروعية العنف أو عدم مشروعيته تتحدد دائما بالقياس إلى قوانين أو مؤسسات قائمة أو مبادئ أخلاقية،
ثم أي عنف هذا الذي نبحث في مشروعيته؟ هل هو عنف الأفراد ضد بعضهم البعض؟ كلا. فهذا العنف يفقد مبرره ومشروعيته منذ اللحظة التي يظهر فيها المجتمع. وحيث أن الدولة هي الطرف الوحيد التي بات يحتكر اليوم إستعمال العنف، فإن العنف الذي نتحدث عن مشروعيته إما أن يكون عنفا صادرا عن الدولة وأجهزتها تجاه مواطنيها أو بين الدول ضد بعضها البعض، ولايمكن أن يكون عنفا صادرا من الفرد اللهم إلا إذا كان موجها ضد الدولة نفسها، ينازعها السيادة أو السلطان. وبناءا عليه يمكن الرجوع إلى محور الدولة بين الحق والعنف من أجل تبين هذه العلاقة الملتبسة القائمة بين العنف والمشروعية
ملحق: اللاعنف عند غاندي كرفض مطلق للعنف:
اكتفت المواقف التي أتينا على ذكرها بالبحث في أشكال العنف أو دوره في التاريخ، في حين أن غاندي يرفضه جملة وتفصيلا وبشكل مطلق وراديكالي مهما كان شكله أو غايته!
يعرف غاندي اللاعنف كموقف كوني تجاه الحياة، إنه "الغياب التام لنية الإساءة تجاه كل ما يحيا" بمعنى أن اللاعنف مثله مثل العنف لا يقع على مستوى الفعل فقط بل والنية أيضا. ولكن كيف نتعامل مع العنيفين والمستبدين و الظلمة؟ يجيب غاندي: عن طريقة المقاومة الأخلاقية والذهنية، أي رفض العنف والامتناع عن ممارسته بالفعل أو بالنية مهما كانت الغايات والأهداف. فمواجهتي لسيف المستبد كما يرى غاندي لا تكون باستلال سيف أكثر مضاءا وحدة يفله، بل بأن أخيب أمله في أن يراني أواجهه بمقاومة مادية، فهو سيراني بدلا من ذلك أواجهه بمقاومة روحية تفلت من تقديره وتحكمه.
يذكرنا موقف غاندي بموقف المسيح عليه السلام الذي ينصح الإنسان بأن يدير خده الأيمن لمن يلطمه على خده الأيسر !، ولكن ما هي فعالية مثل هذا الموقف في عالم يبتكر يوما بعد يوم أسئلة أكثر فتكا وأشد تنكيلا !؟
الحق والعدالة
المحور الأول: الحق بين الطبيعي والثقافي
طرح الإشكال:
ما الذي يشرعن ويبرر إعلان الحرية أو المساواة أو غيرها حقا من حقوق الإنسان؟ أيرتبط ذلك بإرادة المشرعين والقوانين الوضعية أم لأنها حقوق محايثة للطبيعة الإنسانية؟ وبعبارة أخرى، يمكن تأسيس وتأصيل الحق خارج كل ثقافة وتشريع ومواضعة أم أن الحق يظل نسبيا بنسبية القوانين الوضعية التي تجسده على أرض الواقع؟
معالجة الإشكال:
1- بحثا عن مرجعية كونية مؤسسة للحق: فكرة الحق الطبيعي
أ- تمهيد: لماذا تأسيس الحق على ما هو طبيعي؟
لقد لوحظ على الدوام أن الحق المستمد مما هو ثقافي يسري عليه ما يسري على الثقافة من تنوع واختلاف باختلاف المجتمعات والحقب التاريخية، مما دفع باسكال أن يكتب ذات مرة ساخرا: "يا لبؤس العدالة التي يحدها نهر ! أفكار صائبة هنا، خاطئة وراء جبال البرانس" هنا بالضبط تكمن الأهمية النظرية لمقولة الحق الطبيعي التي تؤصل للحق في الطبيعة وفي الطبيعة الإنسانية خاصة، بشكل مستقل عن الثقافة وإرادة المشرعين، لأن الطبيعة مرجع كوني و سابق منطقيا وزمنيا على المجتمع والثقافة..
ب- معلومات إضافية: ثلاث نماذج لفلسفات الحق الطبيعي:
قدم هوبز واحدة من أهم صياغات نظرية الحق الطبيعي في كتابه التنين، حيث عرَّفه بأنه الحرية التي لكل إنسان في أن يتصرف كما يشاء في إمكاناته الخاصة للمحافظة على طبيعته وحياته الخاصة، وأن يفعل كل ما يرتئيه نظره وعقله ناجعا لذلك. وعليه فالحق الطبيعي أو حق الطبيعة هو الحق في الحياة والحق في المحافظة عليها والحرية المطلقة في حماية الوجود البيولوجي والدفاع عنه.
ونجد عند جون لوك التعبير الأكثر وضوحا عن الأساس المنهجي العام لنظريات الحق الطبيعي إذ يقول:" حالة الطبيعية هي حالة الحرية الكاملة للناس في تنظيم أفعالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم ... وهي أيضا حالة المساواة (...) إذ ليس هناك حقيقة أكثر بداهة من أن المخلوقات المنتمية إلى النوع والرتبة نفسها المتمتعة كلها بالمنافع نفسها التي تمنحها الطبيعة وباستخدام الملكات نفسها، يجب أيضا أن يتساوى بعضهم مع بعض"
أما روسو فيقول في كتابه "أصل التفاوت بين الناس": " إن التنازل عن الحياة أو الحرية وأيا كان الثمن هو إهانة للطبيعة والعقل، ولكن على افتراض إمكان التصرف الإنسان في حريته كما يتصرف في ماله، فإن الفرق يظل بينا جدا ... أن الحرية، إذ هي هبة من الطبيعة وقد وهبت لهم بصفة كونهم بشرا، ... وهكذا فمادام إنشاء العبودية يقتضي إكراه الطبيعة بالشدة والعنف، فقد وجب أيضا أن تغير الطبيعة لتأييد هذا الحق: والفقهاء الذين قضوا بكل وقار بأن ولد العبد يولد عبدا، كان معنى قضائهم هذا أن الإنسان لا يولد إنسانا"
ج- حقوق الإنسان الطبيعية أساس حقوقه المدنية:
تؤكد نظريات الحق الطبيعي على وجود حقوق أساسية محايثة لطبيعة الإنسان مثل الحياة والحرية والمساواة، بوصفها حقوقا سابقة على كل اجتماع أو مواضعة نسبية مشروطة ثقافيا أو تاريخيا، و لا يمكن تصور الإنسان كإنسان بدونها. ورغم ما نلاحظه من إختلاف بين منظري الحق الطبيعي في فهم الطبيعة الإنسانية وكذا حالة الطبيعة، إلا أنهم يتبعون نفس الإجراء المنهجي المتمثل في تجريد الإنسان من كل المحددات الثقافية والتاريخية من أجل استنباط حقوق محايثة لطبيعته؛ ثم إن هذا الإختلاف يتلاشى، لأن نظريات الحق الطبيعي تتحول في النهاية إلى نظرية للعقد الإجتماعي ذلك أن تأسيس الحق على ما هو طبيعي، لا يعني استبعاد الثقافة والاجتماع والتعاقد، فإذا كانت الطبيعة تعطي للحق مصدره ومشروعيته، فإن التعاقد هو الذي يضمن استمراريته. وواضح أن الإحالة على "الطبيعة" هنا لايعني سوى تأسيس الحق على مرجعية سابقة على كل مرجعية تاريخية: فالطبيعة سابقة على كل ثقافة وحضارة، على كل مجتمع ودولة، وبالتالي ، فهي مرجعية كلية مطلقة، ومن ثَمّ فالحقوق التي تتأسس عليها هي حقوق كلية مطلقة كذلك
2- الحق الوضعي: حق نسبي بنسبية مبادئه
رغم القوة النظرية والجاذبية التي تتمتع بها نظرية الحق الطبيعي، إلا أن البعض لا يرى في مرجعية الطبيعة سوى مفهوم إفتراضي يفتقد إلى الإجماع حول مضمونه: إذ يبدو أن البشر عرفوا على الدوام أشكالا من التنظيم مَهْما كانت بدائية بسيطة، مما يشكك في حالة الطبيعة المستخدمة كفرضية للإستنباط الحقوق الطبيعية؛ إضافة إلى صعوبة تحديد محتوى الطبيعة الإنسانية الذي تعرض في القرن العشرين للمراجعة سواء من طرف العلوم الإنسانية أو الفلسفة الوجودية. مما يجعل الإجماع حول مبادئ عقلانية كونية أمرا مستبعدا، لأن هذه المبادئ نفسها تتجاهل المحددات الثقافية النسبية. ألا ينبغي بالأحرى الحديث عن الحق في بعده النسبي الثقافي؟
تأسيسا على هذه الملاحظات، لاترى الوضعية القانونية في أطروحة الحق الطبيعي سوى إنشاءات ميتافيزيقية لاتحقق شروط العلمية كما تفهمها الإبستملوجيا الوضعية الملتزمة بأحكام الواقع (ماهو كائن) لابأحكام القيمة (ماينبغي أن يكون). وهكذا فالحق عند هانز كيلسن مثلا لايستمد قوته ومصدره إلا من القوانين التي تبلوره وتحتم العمل به، لأن القانون يقول الحق تبعا للإختيارات والأولويات بما يعكس خصوصية المجتمع وتطوره التاريخي وبما يترجم موازين القوى داخل البنية الإجتماعية وهي موازين ديناميكية متغيرة بتغير التشكيلات الإجتماعية. ومن وجهة نظر فقه القانون والدراسة العلمية، فلا وجود لحق أو عدالة خارج القانون الوضعي الذي يوفر قوة الإلزام الضرورية لتحويل الحق إلى واقع معيش مستعينا بالمؤسسات التنفيذية والقضائية.
معلومات إضافية (ملخص نص هانز كيلسن من كتابه نظرية خالصة في الحق):
تترتب عن هذه المقاربة نتيجتان: الأولى هي إستبعاد كل حديث عن الحق في بعده الأخلاقي المثالي المُعوِّل على الإلتزام الذاتي للفرد، والحرص على ألا يدعي النص القانوني صفة الإطلاقية بإشهاره للصفة الأخلاقية. فالقانون والأخلاق دائرتان منفصلتان. لأن القانون نسق تراتبي من القواعد التي تستمد قيمتها من هذا النسق لا من مرجعية متعالية مفارقة؛ تترتب عن ذلك عضويا نتيجة ثانية، وهي استحالة المفاضلة بين الأنظمة القانونية، لعدم وجود معيار أسمى يسمح بالمفاضلة: فقد يعتبر أحدهم النظام الليبرالي عادلا والشيوعي ظالما إعتمادا على معيار الحرية الفردية، في حين يغدو النظام الليبيرالي ظالما والشيوعي عادلا من منظور الأمان الإجتماعي ! ولكن مالسبيل للمفاضلة بين الحرية والأمان الإجتماعي؟ لاسبيل للمفاضلة حسب كيلسن إلا اعتمادا على معايير سيكلوجية ذاتية لاتحظى بأي إجماع، إذ يصعب الإجماع على معايير بديهية للعدل والكرامة والحق.
المصدر: الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة-الشعبة الأدبية-طبعة 1996 ص 192
3- خلاصة نقدية: إذا كانت العدالة هي المثل الأعلى للحق، فإنها لا تختزل إلى القوانين الوضعية
من منظور الوضعية القانونية، يصبح الحق وضعيا متجذرا في الثقافة بمحدداتها الإجتماعية والإقتصادية والتاريخية، غير مطلق بل نسبي بنسبية هذه المحددات. ولكن إلى أي حد يمكن المضي في المطابقة بين الحق والقانون الوضعي، أي بين المشروع والقانوني؟ يرى ليو ستراوس أن رفض فكرة الحق الطبيعي يعني أن كل حق فهو وضعي من صنع المشرعين ومحاكم مختلف البلدان، لكن وجود قوانين وقرارات جائرة كقوانين المستعمر والطغاة، يلزم عنه وجود معيار للعدل والظلم يستقل عن الحق الوضعي ويسمح بتقييمه. وقديما أعلن شيشرون أنه ما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى، لأننا لانملك قاعدة غير الطبيعة لتمييز حَسَنِ القوانين عن قبيحها.
يتبين مما سبق أن الحق قيمة مركبة شأنها شأن باقي القيم الأساسية التي تحكم الفاعلية البشرية: فهو طبيعي وثقافي، كوني ونسبي في نفس الوقت. طبيعي كوني لأنه يمس الماهية الإنسانية، ويخاطب الإنسان بما هو إنسان؛ وثقافي نسبي لأن بتحوله من فكرة ومبدأ إلى واقع معيش يتجذر في القيم والمؤسسات والتاريخ الخاص بهذا المجتمع أو ذاك.
المحور الثاني: العدالة كأساس للحق
أنظر الفقرة السابقة وكذا المحور الموالي
المحور الثالث: العدالة بين الحق والمساواةا
طرح الإشكال:
للعدالة عدة معان، يعرفها المعجم الفلسفي لجميل صليبا كالتالي:"المبدأ المثالي او الطبيعي او الوضعي الذي يحدد معنى الحق... وتنقسم إلى عدالة تبادلية قائمة على أساس المساواة؛ وعدالة توزيعية تتعلق بقسمة الأموال والكرامات بين الأفراد بحسب ما يستحقه كل واحد منهم" ونستخدمها هنا كمرادفة للحق، منظورا إليه من حيث تعلقه لا بالذات في فرديتها، بل في علاقتها بأقرانها داخل جماعة بشرية ما من حيث كونهم ذوات حقوقية متكافئة ومتماثلة. وبهذا المعنى ولذلك قيل بأن العدالة تهدف إلى خلق المساواة بين هذه الذوات، ولكن هل الجميع متساوون فعلا؟ إذا كانوا متساوين في الاعتبار القانوني فعل هم متساوون في المواهب والحهد المبذول؟ بعبارة أخرى هل يمكن للعدالة كمساواة أن تنصف جميع أفراده؟ وماذا نقصد بالإنصاف أولا؟
في الوقت الذي تهدف فيه المساواة إلى تحقيق التماثل والتكافؤ الرياضي بين الأفراد بغض النظر عن اختلافاتهم وتفاوتاتهم محاولة طمس هذه االتفاوتات أو تحييدها، فإن الإنصاف يهدف إلى إعطاء كل ذي حق حقه مراعيا بذلك مبدأ الاستحقاق، أي أنه يسعى إلى مكافأة التفاوتات من جهة ، أو الحد من الهوة التي قد تنتج عنها من جهة أخرى.
معالجة الإشكال:
1- العدالة كمساواة
إذا كانت أغلب الدساتير والإعلانات والنظم الأخلاقية المعاصرة تنص اليوم وبصراحة على المساواة الاعتبارية لجميع أفراد النوع الإنساني كحق طبيعي، فإن هذا الاعتراف الذي يبدو اليوم بديهيا، لم يكن كذلك في الماضي: إذ اعتبر المواطن أفضل من الأجنبي، والرجل أسمى من المرأة والأطفال، والسيد أرقى من العبد
ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي آلان Alain: "ما الحق؟ إنه المساواة (...) لقد ابتكر الحق ضد اللامساواة. والقوانين العادلة هي التي يكون الناس أمامها سواسية، نساءا كانوا أم رجالا أو أطفالا أو مرضى أو جهالا. أما أولئك الذين يقولون إن اللامساواة من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا بئيسا"
وبعبارة أخرى، فجوهر العدالة يكمن في هذه الحالة في التماثل والمساواة بل في المساواة الرياضية A=B
ومن أمثلة ذلك: المساواة أمام القضاء، تكافؤ الحظوظ في نيل المناصب، الترشح والتصويت، المساواة بين الرجل والمرأة...
وليس من الغريب أن يستأثر مبدأ المساواة بجاذبية خاصة بحيث رفعته الكثير من الحركات النضالية كمطلب وأيديولوجيا تعبوية، ولكن المآل الفاشل لتجربة الأنظمة الاقتصادية الاشتراكية في إصرارها على تحقيق نوع من المساواة واللاطبقية، من خلال سياسة توحيد الأجور وتقزيم الملكية الخاصة لدرء الفورارق والتي أدت إلى إبطال حوافز الإنتاج والابتكار وإضعاف القدرة التنافسية... هذا الفشل يدعونا إلى التفكير مجددا في مدى ملاءمة المساواة كمثل أعلى للعدالة
2-العدالة كإنصاف
يتضح مما سبق أن فكرة المساواة تتضمن مبدءا عاما وبسيطا بساطة العلاقات الرياضية كما يرى إرنست بلوخ، ولكنها لا تنشغل بمدى قدرة الناس على الاستفادة الفعلية من مبدأ المساواة، وباحتمال أن ينتج عن تطبيق المساواة خلاف المقصود أي الظلم أو خراب النظام!
لذلك يرى جون راولز –بناءا على فرضية الوضعية الأصلية وحجاب الجهل – أن نظاما عادلا لابد يقوم على مبدأي المساواة واللامساواة معا: المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية، واللامساوة الاجتماعية والاقتصادية، مثل اللامساواة في الثرورة والسلطة
بيد أن اللامساواة لا تكون عدلا وإنصافا إلا إذا استوفت شرطا وحققت غاية. فأما الشرط فهو استفادة الأقل حظا من ثمار هذه الثروة والسلطة، بواسطة مبدأ تكافؤ الفرص في لإمكانية جمع الثروة أو تبوأ المناصب كما يتجلى ذلك أيضا في دولة الرعاية من خلال تقديم خدمات ومساعدات اجتماعية للذين يعيشون الإقصاء على هامش نظام الرخاء لهذا السبب أو ذاك. وأما الغاية، فهي ضمان التعاون الإرادي والعمل المشترك من أجل الرخاء، ضمن ما يسميه راولز بالنظام المنصف للتعاون الاجتماعي.
نقول إذن أن الإنصاف – بخلاف المساواة- يهدف إلى مراعاة الفروق والتفاوتات وعدم طمسها أو تجاهلها إما بهدف مكافأة المجدين والمستحقين وتشجيع المنافسة، أو مساعدة الأقل حظا ونصيبا. وقد سبق لأرسطو في كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، أن ذهب إلى "أن العدالة مساواة، ولكن فقط بين المتكافئين؛ واللامساواة عدالة ولكن بين غير المتكافئين". ولكن ما مصدر عدم تكافئهما؟ أن الاستحقاق والتميز قد يدين بالفضل للانتماء الاجتماعي والرأسمال الرمزي أو المادي الذي يجد بعض المحظوظين أنفسهم مزودين به دون غيرهم وهم يخوضون غمار المنافسة مع الأنداد.
يختلف الإنصاف عن المساواة على مستوى آخر كما يختلف العام عن الخاص. يقول أرسطو: "تتجلى الطبيعة الخاصة للإنصاف في تصحيح القوانين كلما بدت هذه الأخيرة غير كافية بسبب عموميتها" ويدخل في هذا الإنصاف ما يسمى مثلا بــ "الاجتهاد القضائي" الذي يترك للقاضي في بعض الأحيان فرصة تكييف القوانين وفق ظروف النازلة ومستجدات العصر أو إعمال مبدأ الإنصاف عند سكوت النص القانوني؛ كما يدخل في باب الإنصاف أيضا "الميز الإيجابي" مثل تخصيص نسب مئوية من مقاعد المجالس النيابية للنساء، لأن تطبيق المساواة أظهر أن النساء ولأسباب سوسيوثقافية وتاريخية لا يستطعن أن يحرزن على أكثر من عشر المقاعد رغم أنهن يشكلن عدديا نصف المجتمع !
إذا كان الإنصاف فضيلة للمؤسسات لتجاوز عيوب المساواة، فإن الإحسان والانصاف معا. Charité هو تلك الفضيلة المطلوبة من الفرد عندما لاتفلح إجراءات المساواة والانصاف معا.
الواجب
إن الإنسان حيوان أخلاقي، ولذلك فتميزه بهذه الصفة جعله يطرح السؤال الأخلاقي التالي: ما الذي ينبغي أن نعمله؟ وفي هذا الإطار استثمر الإنسان عقله الأخلاقي العملي من أجل تشريع قوانين لسلوكه، وسن واجبات لتحقيق الغايات المنشودة من أفعاله. وإذا كان الواجب كلفظ يحيل إلى معنى الإكراه والإلزام، فإنه مع ذلك يعبر عن سمو الإنسان وحريته والتزامه بما يشرعه لنفسه. وإذا كان الوعي الأخلاقي سمة من سمات الكائن البشري، باعتباره ما يسمح له بالتمييز بين الخير والشر، فإن هناك من جعل أساس هذا الوعي في الفطرة البشرية، وهناك من أرجعه إلى العقل، وهناك من عاد به إلى منشئه التاريخ في إطار الصراع حول المصالح. وأمام هذا التعدد في المرجعيات التي تحكم الواجب، نجد أنفسنا أحيانا أمام واجبات ترتبط بسلطة مجتمع ما وظروفه الخاصة، مما قد يؤدي إلى انغلاق القيم الأخلاقية ودخولها في صراع مع مرجعيات أخلاقية أخرى، وهذا أمر يحتم ضرورة المراهنة على أخلاق كونية تؤسس لواجب الإنسان إزاء الإنسان .
المحور الأول: الواجب والإكراه .
* إشكال المحور: هل يمكن أن يكون الواجب حرا أم أن قبوله لا يتم سوى تحت الإكراه؟ وهل يستمد الواجب سلطته من وازع عقلي داخلي أم يستمدها من إلزام خارجي؟
1- موقف هيوم: الواجب إلزام صادر عن المنفعة وضرورات المجتمع .
يرى دفيد هيوم أنه لا يمكن تأسيس الأخلاق على دعامة من العقل وحده، لأن الأحكام الأخلاقية خاضعة للعرف والعادة والبيئة الاجتماعية. هكذا فجريمة واحدة قد تصادف أحكاما مختلفة باختلاف الظروف والأحوال. فالحكم على الأفعال بالخير أو الشر راجع إلى عاطفة أو إحساس نابع من التجربة والمجتمع اللذين يجعلان الإنسان يتشبث بالحسن لما يجلبه له من منفعة، ويبتعد عن القبيح لما يجلبه له من ضرر .
ويقسم هيوم الواجبات الأخلاقية إلى نوعين: الواجبات الأولى هي تلك التي يقوم بها الناس بدافع غريزي طبيعي، وبدون أي إلزام أو سعي نحو تحقيق منفعة ما؛ مثل حب الأطفال والعطف على المحتاجين. أما الواجبات الثانية فهي تلك التي تكون صادرة عن إلزام نابع من ضرورة المحافظة على المجتمع البشري .
هكذا فالطابع الإلزامي للواجب عند هيوم مرتبط بالآثار المترتبة عنه على مستوى الحياة الاجتماعية. والتجربة وحدها هي التي تبين لنا مدى ما نجنيه من منفعة أو فائدة إذا ما تقيدنا بأوامر الواجب .
من هنا فالتجربة والتفكير المرتبط بها هما اللذان يمارسان الرقابة على الميولات الذاتية والغريزية، ويجعلانها خاضعة للأحكام الصادرة عن الواجب .
إن إلزامية الواجب إذن صادرة، حسب هيوم، عن دوافع خارجية، كما أنها ترتبط بالمنفعة وبالنتائج المفيدة المترتبة عنها. وهو الأمر الذي سيرفضه إيمانويل كانط .
2- موقف كانط: الواجب التزام حر، نابع من الذات وغير مشروط .
يرى كانط أن الإنسان حينما يخضع للقوانين التي يمليها الواجب الصادر عن العقل، فإنه لا يخضع سوى لتشريعه الخاص، ولا يتصرف إلا طبقا لإرادته الخاصة. هذه الإرادة التي تتميز بالاستقلال الذاتي، لأنها تشرع لنفسها في استقلال عن أية شروط أو غايات خارجية .
ويرى كانط من جهة أخرى بأن الإرادة لا تخضع دوما لأوامر العقل، لذلك يمارس عليها هذا الأخير نوعا من الإكراه، إلا أنه إكراه حر؛ مادامت الإرادة تخضع للقانون الأخلاقي الصادر عن العقل من أجل مقاومة التأثير الذي تمارسه الميولات الغريزية من جهة، ومن أجل المحافظة على كرامة الإنسان واحترامه من جهة أخرى .
ويميز كانط بين نوعين من الأوامر الأخلاقية؛ أوامر أخلاقية شرطية ترتبط بالنتائج التي تتطلبها الضرورات العملية، فتكون الواجبات في هذه الحالة مجرد وسائل لتحقيق غايات معينة؛ كأن نقول الصدق من أجل أن نكسب ثقة الناس، وأوامر أخلاقية قطعية أو مطلقة، وهي تلك التي تنظر إلى الأفعال في ذاتها لا من حيث النتائج المترتبة عنها؛ كأن نقول الصدق دائما لأنه واجب أخلاقي صادر عن العقل العملي .
هكذا فالواجب المرتبط بهذه الأوامر الأخيرة يتميز بكونه غير مشروط بأية نتائج منتظرة، فهو يحمل غايته في ذاته، كما أنه ذا صبغة كونية وشمولية. وهو زيادة على ذلك يتسم بطابعه الصوري والعقلي المجرد .
وبالرغم من هذا الطابع الصوري والكوني للواجب الأخلاقي عند كانط، فهو يعبر عن حرية الإنسان والتزامه بقوانين كونية نابعة من العقل، كما يجعله يتصرف كما لو كان في نفس الوقت مشرعا وفردا في مملكة الإرادة .
المحور الثاني: الوعي الأخلاقي .
* إشكال المحور: ما هو مصدر الوعي الأخلاقي؟ وأين يجد أساسه ومبدأه؟ وكيف يتأتى للإنسان الوعي بالأوامر الأخلاقية؟ وكيف له أن يميز بين الخير والشر؟
1- موقف روسو: الفطرة كأساس للوعي الأخلاقي .
إن أساس الوعي الأخلاقي عند روسو هو مبدأ فطري يمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشر. وهذا المبدأ هو ما ينعته روسو بالوعي الأخلاقي الذي يصدر عن إحساس عميق في النفس البشرية، يمكنها من إصدار أحكام على الأفعال ووصفها بالخيرة أو الشريرة .
هكذا فمصدر الوعي الأخلاقي هو إحساس داخلي متأصل في الطبيعة الإنسانية، وهو الذي يميزها عن طبيعة أي كائن آخر. وهذا ما يجعل الاجتماع البشري لا يتأسس فقط على الحاجيات البيولوجية وضروريات العيش، بل يتأسس أيضا على الروابط الأخلاقية التي تجد مرتكزها في الأحاسيس الفطرية التي تميز الكائن البشري، وتدله على ما هو خير وما يسمح له بتأسيس علاقته مع ذاته ومع الآخرين في إطار أخلاقي وإنساني .
ويميز روسو بين معرفة الخير ومحبته؛ فمعرفة الخير هي معرفة عقلية مكتسبة، لكن محبته هي نابعة عن إحساس فطري لدى الإنسان. من هنا فالوعي الأخلاقي عند روسو هو غريزة إلهية خالدة ومعصومة، وهي الضامنة والمرشدة للإنسان بحيث تمكنه من التمييز بين الخير والشر، وتمنح أفعاله صبغة أخلاقية متميزة .
وإذا كان روسو يؤسس الوعي الأخلاقي على الفطرة والغريزة، فإنه يتجاهل الظروف التاريخية والعوامل الاجتماعية التي تقف وراء نشأة الوعي الأخلاقي. وهو ما أكد عليه مجموعة من الفلاسفة، ومن بينهم نيتشه .
[ ملاحظة: يمكن استثمار موقف كانط في هذا المحور الثاني، باعتبار أن كانط يجعل مصدر الواجب في العقل ويؤسسه على القانون الأخلاقي الصادر عنه ...]
2- موقف نيتشه: يجد الوعي الأخلاقي أساسه في العلاقات التجارية الأولى بين الناس .
لقد كشف نيتشه من خلال بحثه الجينيالوجي عن أصل الأخلاق ومنشئها، عن الأحداث التاريخية الأولى والحقيقية التي كانت وراء تبلور ما يسمى بالوعي الأخلاقي .
هكذا فقد نشأ الوعي الأخلاقي في إطار علاقة تجارية بين الدائن والمدين؛ حيث أن هذا الأخير عجز عن أداء ما عليه من دين للأول، باعتباره واجبا عليه، فعوض له ذلك بخضوعه له وانصياعه لأوامره. من هنا فأصل الوعي الأخلاقي، وبالتالي أصل الخير والشر، هو تلك القيم والواجبات التي وضعها الدائنون ليعاقبوا بها المدينين ويصبحوا سادة عليهم .
إن العقاب في هذه الحالة لم يتخذ شكل تعويض مالي أو عقاري، وإنما اتخذ شكل عقاب معنوي وأخلاقي. وقد ترتب عنه ظهور مبادئ وواجبات وأوامر يكون لزاما على المستضعفين الخضوع لها من أجل المحافظة على حياتهم .
وهكذا وبدل تعويض الدين مباشرة، تم تعويضه بشكل غير مباشر عن طريق تخلي المدين العاجز لسلطة القرار لصالح الدائن، الذي أصبح منذ هذه اللحظة، وبفضل قوته وجبروته، يصدر الأوامر ويمارس مختلف أشكال العقاب على من هم تحت سيطرته .
هذه إذن هي العلاقة التاريخية الأولى التي كانت وراء تشكل الوعي الأخلاقي، في نظر نيتشه، غير أن العبيد والمستضعفين فيما بعد عملوا على قلب القيم الأخلاقية وإعطائها معاني جديدة تخدم مصالحهم .
← يتبين إذن، مع نيتشه، كيف أن الوعي الأخلاقي ذو جذور تاريخية وتجارية؛ إذ أنه يجد مرتكزاته في الصراع الذي حصل بين الناس حول المصالح الاجتماعية والاقتصادية. ولذلك فالإنسان لا يلتزم بالواجبات الأخلاقية في ذاتها، كما لا تكتسي هذه الواجبات صبغة ثابتة ومطلقة، بل إنه يتوخى النتائج النافعة المترتبة عن تلك الواجبات، مما يضفي عليها طابع النسبية والتغير .
وهذه الفكرة الأخيرة تقودنا إلى إشكال الواجب بين المطلق والنسبي؛ فهل يرتبط الواجب بكل مجتمع على حدة فيتخذ طابع النسبية، أم أنه مطلق ويتعلق بالإنسانية ككل؟
المحور الثالث: الواجب والمجتمع .
*إشكال المحور: هل الواجب الأخلاقي هو مجرد صدى لصوت المجتمع أم أنه يتجاوزه إلى مستوى الإنسانية ككل؟ وهل هو خاص يتعلق بكل مجتمع على حدة أم أنه كوني يتعلق بجميع الناس؟ وهل الفرد ملزم بواجبات نحو مجتمعه فقط أم بواجبات نحو الإنسانية أيضا؟
1- موقف دوركايم: الواجب الأخلاقي هو ترديد لصوت المجتمع .
[ملاحظة: يمكن استثمار موقف دوركايم أيضا في المحورين السابقين؛ حيث أن دوركايم يقول بإلزامية الواجب الأخلاقي وخارجيته في حين أن كانط يقول بالالتزام الصادر من داخل الذات. أما في المحور الثاني فإن دوركايم يحدد أساس الوعي الأخلاقي في المجتمع أو ما يسميه بالضمير الجمعي ...]
إن مصدر الواجب عند دوركايم هو المجتمع الذي هو كائن معنوي يتجاوز الأفراد ويؤثر فيهم. هكذا فلدى الأفراد مشاعر عديدة تعبر عن صوت المجتمع الذي يحيى داخل ذواتهم، ويمارس عليهم نوعا من القهر والإكراه الخفي. إن المجتمع بهذا المعنى ، هو جزء لا يتجزأ من الذوات الفردية التي لا تستطيع أبدا الانفصال عنه؛ فهو الذي بث فيها تلك المشاعر والمعايير التي تحدد لها واجباتها الأخلاقية، أي ما ينبغي عليها فعله وما يجب تجنبه. فالضمير الأخلاقي إذن هو تعبير عن صوت المجتمع، وهو يتردد داخل الذات الفردية بلغة الآمر والناهي، مما يجعله يتمتع بسلطة قاهرة ويمنح بالضرورة لقواعد السلوك الفردي صفة الإكراه المميزة للإلزام الأخلاقي .
لكن إذا كان الواجب يرتبط بالمجتمع وبإكراهاته، فإنه بذلك يسقط في الانغلاق والنسبية؛ مادام أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية والحضارية التي تميزه عن باقي المجتمعات. كما أن الواجب في هذه الحالة من شأنه أن يؤدي نوع من الصدام الحضاري، والصراع الفكري والأخلاقي بين الأمم والشعوب .
فهل يمكن أن نرتقي بالأخلاق إلى مستوى الكونية ونخرجها من انغلاقها لتنفتح على القيم والواجبات الإنسانية؟
2- موقف برجسون: من الواجب إزاء المجتمع إلى الواجب إزاء الإنسان .
يرى برجسون أنه بالرغم من أن المجتمع يتكون من إرادات فردية حرة، فإن هذه الإرادات تؤلف في انتظامها جهازا عضويا يرسخ أنساقا من العادات الجماعية التي تمارس إلزامها وسلطتها على الأفراد .
هكذا فالمجتمع هو الذي يحدد للفرد واجباته وقواعد سلوكه اليومي. ويتم خضوع الفرد للمجتمع بنوع من الآلية والعفوية التي لا يكاد يشعر الأفراد خلالها بذلك الضغط الممارس عليهم من قبل المجتمع. غير أن هذه الواجبات تتحول إلى عادات محدودة وذات طابع سكوني ومنغلق، مما يحتم ضرورة، حسب برغسون، الانتقال بها إلى مجال المجتمع المفتوح الذي هو الإنسانية ككل .
إن علينا واجبات نحو الإنسان كإنسان، كاحترام حياة الآخرين واحترام حرياتهم ومعتقداتهم، ولذلك يجب ترسيخ قيم وواجبات كونية من شأنها أن ترسخ السلم والتسامح بين كل أفراد بني الإنسان .
السعادة
تـقـديـــم:
ليس يخفى، أن الفلسفة تنقسم إلى ثلاثة مباحث كبرى وهي : مبحث المعرفة ومبحث الانطولوجيا ومبحث القيم . ويطرح كل واحد من هذه المباحث جملة مفاهيم وإشكالات. ومن بين جملة تلكم المفاهيم التي يطرحها مبحث القيم، نلفي مفهوم" السعادة ". فما هي دلالة هذا المفهوم ؟
الدلالة المتداولة:
يتباين الناس في تمثلهم للسعادة، فمنهم من يرى السعادة في الصحة ، ومنهم من يراها في المال، ومنهم من يراها في الصداقة، ومنهم من يراها في راحة البال، ومنهم من يراها في تلبية كاملة للرغبات، وتحقيق المتعة في شتى أشكالها … والعلة في اختلاف الناس في تمثلهم للسعادة هو جانب النقص الذي يعاني منه كل إنسان، فالفقير يرى السعادة في المال، والمريض يرى السعادة في الصحة، والأعزب يرى السعادة في الزواج وهكذا…
هذا، ويلفت الانتباه في تمثلات الناس للسعادة، أنه يغلب عليها الجانب المادي الذي يقترن بما هو إرضاء للحواس.
الدلالة اللغوية :
أ- لسان العرب : ابن منظور
جاء في" لسان العرب" : سعد السعد بمعنى اليمن، وهو نقيض النحس. والسعود خلاف النحوسة، والسعادة خلاف الشقاوة . ونقول سعد يسعد سعدا وسعادة فهو سعيد ، نقيض شقي والجمع سعداء .
ويشتق من نفس الجدر ثلاثة ألفاض تشترك في نفس المعنى وهي : الساعد والسعدان والسعد.
فلفظ الساعد يدل أولا، على ساعد الإنسان أو الطير أو القبيلة : فساعدا الإنسان ذراعاه ، وساعدا الطائر جناحاه ،وساعد القبيلة رئيسها. ويدل ثانيا، على مجرى المياه ، فسعيد المزرعة نهرها الذي يسقها. ويدل ثالثا ، على مخرج اللبن في الناقة . أما لفظ السعدان فيدل على نبات ذي شوك من أطيب مراعي الإبل. وأما لفظ السعد فيدل على الطيب ذي الرائحة الزكية.
إن ما يمكن استنتاجه من هاته الدلالات هو :
أولا : اقتران السعادة بالإرضاء و الارتواء. فالنهر الذي يسقي المزرعة يرويها، ولبن الناقة يروي ويشبع صغيرها، ومنبت شوك النخل يشبع جوع الإبل، والطيب يشبع النفس برائحته العطرة.
ثانيا : اقترانها بالعضوين اللذين يدبران الجسد، وهما: الساعدان.
ومن هنا يكتسب اليمن دلالتين :
الأولى : تشير إلى ما هو مادي محسوس، وتتمثل في الإرضاء والإشباع.
الثانية : تومئ إلى ما هو عقلي، وتتمثل في التدبير، فعمدة المدينة وساعدها هو رئيسها وعقلها المدبر لشؤونها والمسير لها نحو ما هو أفضل لها. ولا يمكن في هذا السياق تصور سعادة بدون تعاون واجتماع.
يتضح من كل ما سبق، أن التعريف اللغوي للسعادة قد وسع من دلالتها، بشكل جعلها تنفتح على عنصر لا مادي، من طبيعة عقلية واجتماعية وسياسية تتعلق بالتفكير والتدبير.
الدلالة الفلسفية :
أ- المعجم الفلسفي : جميل صليبا
السعادة هي الرضا التام بما تناله النفس من الخير. والفرق بينها وبين اللذة أن السعادة حالة خاصة بالإنسان، وأن رضا النفس بها تام. إذ من شرط السعادة أن تكون ميول النفس كلها راضية مرضية، وأن يكون رضاها بما حصلت عليه من الخير تاما ودائما. في حين أن" اللذة " حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان، وأن رضا النفس بها مؤقت .
وإذا كانت السعادة هي حالة إرضاء وإشباع وارتياح تام للرغبات يتسم بالثبات، فانه متى سمت إلى مستوى الرضا الروحي ونعيم التأمل والنظر، أصبحت غبطة . و إن كانت هذه أسمى وأدوم.
وللفلاسفة في حقيقة السعادة آراء مختلفة: فمنهم من يقول إن السعادة هي في إتباع الفضيلة (أفلاطون)، ومنهم من يقول إنها في الاستمتاع بالملذات الحسية المدرسة (القورينائية)، أما أرسطو فانه يوحد الخير الأعلى و السعادة ، ويجعل اللذة شرطا ضروريا للسعادة لا شرطا كافيا. وعين الأمر يقول به أبيقور الذي اعتبر اللذة هي غاية الحياة ، وان كان هو يقيم فروقا بين اللذات. أما الرواقيون فإنهم يرجعون السعادة إلى الفعل الموافق للعقل، وهي- أي السعادة- في نظرهم غير ممتنعة عن الحكم ، وان كان طريقها محفوفا بالألم .
ب- موسوعة لالاند الفلسفية : أندريه لالاند
السعادة هي حالة رضا تام تستأثر بمجامع الوعي .
السعادة هي إرضاء كل الميول وإشباعها.
يتبدى لنا من كل ما سبق، أن مفهوم السعادة تتداخل فيه دلالات متباينة قاموسية وفلسفية وتمثلية .كما يلوح لنا أن هذا المفهوم تتقاطع فيه حقول مختلفة بيولوجية واجتماعية وسياسية وميتافيزيقية وسيكولوجية . فضلا عن أنه يتاخم جملة من المفاهيم الفلسفية الأساسية: كاللذة و الألم والفضيلة والخير الأعلى والعقل والنفس والسياسة والعدالة والخيال و الفطرة و المحاكاة و الواجب والغير و الإرادة …
هذا، ويطرح مفهوم السعادة جملة من الإشكالات من أهمها : ما هي السعادة؟ هل طلب السعادة غاية كل الناس ؟ ولماذا ؟ هل نطلب السعادة من أجل ذاتها أم من أجل أشياء أخرى ؟ ولماذا؟هل يمكن تحقيق السعادة ؟ وبأية وسائل ؟ ما هي علاقة السعادة بالواجب ، هل هي علاقة تكامل أم علاقة إعاقة ؟ بمعنى أخر هل تكمن السعادة أساسا في أن نفعل ما نريد أم في انصياعنا للواجب والقانون ؟ هل السعادة واجب نحو الذات أم نحو الغير أم هما معا ؟
كل هذه الإشكالات التي أثارها مفهوم السعادة و أخرى، سنحاول التعرف على إجابتها من خلال نصوص بعض الفلاسفة الذين تناولوا هذا المفهوم تحديدا واستشكالا…
المحور الأول : تمثلات السعادة
تـقــديــــم :
يختلف الناس و الفلاسفة على السواء في تمثلهم للسعادة. فالعوام يربطونها بالثروة و الجاه و النفوذ و تحقيق المتعة في شتى أشكالها و عموما يمكن القول أن التمثل العامي للسعادة يهيمن عليه المعنى المادي الذي يرى في السعادة ضربا من ضروب المتعة الجسدية. أما الفلاسفة فهم أيضا يختلفون في تمثلهم للسعادة ،فمنهم من يراها في علاقتها بالفضيلة و التأمل العقلي و منهم (فلاسفة الإسلام) من حاول التوفيق بين التأمل العقلي و ما هو ديني أي السعادة الاخروية ، و هناك من يرى أن كل هذه التمثلات حسية و جزئية ، أما عندما نتحدث عن مفهوم السعادة نكون محتاجين إلى " كل مطلق ". و هناك من الفلاسفة من يعتبرها فردية و منهم من يعتبر أن السعادة لا تكون إلا داخل دولة . و آخرون يقولون بأنه من المستحيل أن نستدل على وجود السعادة بل يجب أن نعمل على تحصيلها فهي ممارسة .
أمام هذا التعدد في تمثل السعادة نجد انه لابد من طرح بعض الإشكالات :
*هل السعادة ممكنة ؟
* هل يمكن أن نستدل على وجودها ؟
*هل هي غاية كل الناس ؟
*هل يمكن بلوغها ،و بأية وسائل ؟
*هل نطلبها من اجل ذاتها أم من اجل أشياء أخرى ؟
الموقف الأرسطي :
إن الغاية من السياسة باعتبارها ،هي تحقيق الخير الأسمى الذي هو السعادة و هذا النعت للخير الأسمى بالسعادة يشترك فيه كل من العامي و الفيلسوف «فالعامي كالناس المستنيرين يسمي هدا الخير الأسمى سعادة» إلا انه و على الرغم من هدا الاتفاق فإننا نجد أن هناك بونا شاسعا في تمثل المفهوم بين العامي و الفيلسوف و« انقسام الآراء هذا مرده إلى الاختلاف بشان طبيعة السعادة و أصلها» فمتمثلات السعادة لدى الطبائع العامية تختلف من شخص لآخر فالمريض يراها في اكتساب الصحة ، والمعوز في اكتساب المال و العاشق يراها في الزواج من معشوقته . « إنها ليست إلا شيئا نافعا و مطلوبا لأشياء أخرى غير ذاتها» .
أما الفيلسوف فهو يرى عكس ذلك فالسعادة عنده هي غاية بل غاية الغايات و هي تطلب لذاتها «ينبغي وضع السعادة بين الأشياء التي تختار من اجل ذاتها إذ هي قائمة بذاتها» و كل الأشياء الأخرى إنما تطلب كوسيلة لتحقيقها« كل ما يمكن تصوره إنما يطلب من اجل ما عداه إلا السعادة إذ هي غاية بحد ذاتها »
وعموما يمكن القول أن التمثل العامي يختلف عن تمثل الحكماء دلك أن التمثل العامي يغلب المعنى المادي الذي يرى في السعادة ضربا من ضروب المتعة و اللذة لدلك يرى أرسطو انه« لا يوجد ..إلا ثلاثة صنوف من العيشة يمكن على الخصوص تمييزها .أولها هده العيشة التي تكلمنا عليها انفا (عيشة العوام) ،ثم العيشة السياسية أو العمومية ،و أخيرا العيشة التأملية و العقلية» و يرتبط بكل نوع من هده العيش ثلاث أنواع من السعادة، فأما العيشة الحسية وهي سعادة اللذة الجسدية ، لذة الطعام والشراب والجنس وهي لذة يشترك فيها الإنسان والحيوان ، وهي سعادة وقتية ولو طلبت لذاتها لأدى ذلك الإسراف فيها ، ثم إلى فقد الإحساس باللذة ثم تنتهي إلى الألم والمرض ، فتحققها ليس من السعادة بشيء ، أما الثانية فهي السعادة السياسية مطلوبة من الكثير من الناس ، ولكنهم ما يلبثوا أن يشعروا بالتعاسة عندما يفقدوا مراكزهم ، ويعرفوا أن الناس كانوا يعظمونهم لأجل الوظائف التي يمثلونها وليس لأشخاصهم ، كأن هذه السعادة وقتية وهي متوقفة على الناس يمنحونها ويسلبونها وفقاً للمركز الشخصي لا للقيمة الذاتية ، إذاً هي ليس خير في حد ذاتها وليس دائمة فقد يعقبها الإهمال والتحقير . السعادة الثالثة هي السعادة العقلية فهي التي ترمي إلى تحقيق الفضيلة باعتبار أنها العمل بمقتضى الحكمة ، والحكمة ملكة عقلية تكتسب بالتمرين والتعود على طلب الحق والخير الصحيح وفضائل الحكمة عملية ونظرية ، وتبين لنا الحكمة العملية أن الفضيلة قوة تكتسبها عن طريق ممارسة أعمال تتوفر فيها الإرادة الحرة والمعرفة والنزوع إلى الخير . وإذا بحثنا عن الفضائل نجد أنها تقع في الوسط ما بين المغالاة " الإفراط " والتقصير "التفريط " مثل الشجاعة وسط بين رذيلتين هما التهور والجبن ، والكرم وسط بين الإسراف والبخل والعدل وسط بين المحاباة والظلم ، وتحكم العقل والإرادة في تعيين الفضيلة يتم عن طريقهما الممارسة الواقعية للفضيلة ، فإذا عود الإنسان نفسه أن يتلمس الفضيلة دائماً ويقوم بها فإنها تصبح طبيعة فيه يتجه إليها من دون تردد وبذلك تتحقق له السعادة .
موقف ابن مسكويه :
يحاول ابن مسكويه تقديم التمثلات السائدة عن السعادة لدى كل من الحكماء و العوام و هو اد يُفصل في هدا فيقول إن الحكماء من أمثال فيتاغورس و بقراط و أفلاطون لما قسموا السعادة جعلوها كلها في قوى النفس ،أي القوى الثلاث : القوة الغضبية،القوة الشهوانية ،و القوة العاقلة القوة الشهوانية التي تحرك الإنسان إلى ما يشتهيه أو يجذبه من الملذات والخيرات. والقوة الغضبية التي تحركه إلى "الغضب" عدوانا أو دفاعا أو نجدة. والقوة الناطقة العاقلة وهي التي يحصل بها التمييز والروية والتفكر. ولكل من هذه القوى فضيلتها: ففضيلة النفس الشهوانية العفة، وفضيلة النفس الغضبية النجدة، وفضيلة النفس العاقلة الحكمة. ومن اعتدال هذه الفضائل الثلاث ومن نسبة بعضها إلى بعض تحدث فضيلة رابعة هي كمالها وتمامها وهي العدالة و اجمعوا على أن« هده الفضائل هي كافية في السعادة و لا يحتاج معها إلى غيرها من فضائل البدن و ما هو خارج البدن» و بالتالي فالسعادة عندهم هي سعادة نفس و« سائر الأشياء الخارجة عنها ،فليست عندهم بقادحة في السعادة البتة»
أما الرواقيون فجعلوا السعادة في النفس غير مكتملة إذا لم تقترن بالجسد أو حتى ما هو خارج الجسد هدا بخلاف المحققين من الحكماء الدين لا يربطون السعادة بما هو خارج الجسد فيعتبرونها تابثة لا تتغير و لا يلحقها زوال و لاتغيير .
أما العامة فتختلف طبائعهم في تمثل السعادة بحسب حاجياتهم ،فالمريض يراها في اكتساب الصحة ، والمعوز في اكتساب المال والغريب في العودة لوطنه و عموما يمكن القول إن التمثل العامي للسعادة يهيمن عليه المعنى المادي الذي يرى في السعادة ضربا من ضروب المتعة و اللذة . و الحكماء يرون أن كل هذه التمثلات سعادة و لكن شريطة أن تكون «عند الحاجة و في الوقت الذي يجب و كما يجب و عند من يجب، فهده سعادات كلها، و ما كان منها يراد لشيء أخر ؛فلذلك الشيء أحق باسم السعادة » فالمريض مثلا يجد السعادة فيما يحتاج إليه و هي الصحة .
موقف الفارابي :
لما كان المقصود من الوجود الإنساني بلوغ السعادة عن طريق إدراك المعقولات او المبادئ التي يتاسس عليها وجود الكون و الإنسان ثم كانت هده المعقولات لدى جميع الناس أصحاب الفطر السليمة و التي « يسعون بها نحو أمور و افعلا مشتركة لهم ؛ ثم بعد دلك يتفاوتون و يختلفون فتصير لهم فطر تخص كل واحد و كل طائفة » لزم عن اختلاف الفطر عدم قدرة كل إنسان على أن يعلم من تلقاء نفسه السعادة و لا ان يعملها ،فوجب بدلك ضرورة وجود معلم أو مرشد يرشده إلى الكيفية التي تمكنه من ان يجعل السعادة غايته ثم « يعلم الأشياء التي ينبغي أن يعملها حتى ينال بها السعادة» و تبعا لاختلاف الفطر جب على المعلم أن يسلك طرقا مختلفة باختلاف الطوائف و الأمم ،فقد يتم ذلك بطرقة نظرية خالصة (الخاصة) أو بطريقة تعتمد على المحاكاة كفن للتبليغ و التخييل (العامة).
الموقف الأفلاطوني :
ليست السعادة حسب أفلاطون شأنا شخصيّا بقدر ما هي قضيّة تتعلّق بالمدينة ككلّ وبالتّالي لا يمكن تحقيق الكمال إلاّ في مدينة محكمة التّنظيم. «إننا لم نستهدف في تأسيس دولتنا جلب السعادة الكاملة لفئة معينة من المواطنين و إنما كان هدفنا أن نكفل اكبر قدر ممكن من السعادة للدولة بأسرها » السٌعادة بالنٌسبة لأفلاطون عندئذ هي سعادة المدينة ككلٌ والتي تتحقٌق بالانسجام بين جميع أطرافها وشرائحها، فكما يجب أن يوجد انسجام في الفرد بين النٌفس العاقلة والنٌفس الغضبيٌة والنٌفس الشهوانية. فإنٌ المدينة كذلك يجب أن تنقسم إلى حرٌاس يسيٌرون شؤونها العامٌة وجنود يسهرون على الأمن ورعيٌة تقوم بالأعمال الأخرى الضٌروريٌة مثل الفلاحة والصٌناعة….إلخ. أما إذا لم يحترموا هدا النظام فإننا « نحض حراسنا و حماتنا بالوعد أو نرغمهم بالوعيد كما نفعل مع غيرهم من المواطنين على أن يؤدوا على خير وجه ما يصلحون من الوظائف» فبدلك تتحقق العدالة و تزدهر الدولة و بازدهار هده الأخيرة« وعندما تزدهر الدولة بأسرها... نترك لمكل طبقة أن تتمع بالسعادة على قدر ما تؤهلها لذلك الطبيعة »
الموقف الكانطي :
يحاول كانط في كتابه " أسس ميتافيزيقا الأخلاق " و بالضبط في النص الماثل أمامنا أن يحدد العلاقة التي تربط السعادة بالعقل و الخيال . بمعنى هل نتمثل السعادة بالعقل أم بالخيال. و كمحاولة للإجابة عن هدا السؤال يرى كانط أن تصور السعادة لا يمكن أن يكون بالعقل بل بالخيال،كيف ذلك ؟ إن "جميع العناصر التي تؤلف تصور السعادة ..لزم أن تستعار من التجربة " إما عندما نتحدث عن مفهوم السعادة نكون محتاجين إلى " كل مطلق " ما معنى ذلك؟
إن أمر السعادة ينصب على الوسائل الضرورية لانجاز هده الغاية ،ذلك لأنه ينجم تحليليا من الغاية التي يسعى إليها الإرادة ،تبعا للصيغة التي غدت قولا مأثورا :من يروم الغاية ،يروم الوسائل (تبعا للعقل)اللازمة للوصول إليها و التي هي في مقدوره و بالتالي فجميع العناصر التي تؤلف تصور السعادة هي في جملتها عناصر تجريبية ،أي انه يلزم أن تشتق من التجربة . أما عندما نريد أن نتحدث عن فكرة السعادة فإننا نحتاج إلى كل مطلق ،إلا أننا نجد انه من المستحيل للإنسان ككائن متناه ،محدود بحدود التجربة « أن يكون لنفسه تصورا محددا لما يبغيه هنا على الحقيقة » هل يريد حياة طويلة ؟ فمن يضمن له إلا تكون شقاءا طويلا و بالتالي فمن الصعب عليه أن حدد كيف يكون سعيدا . فليس ثمة في هذا الشأن أمر يمكنه أن يقرر بالمعنى الدقيق للكلمة أن نفعل ما يجعلنا سعداء « دلكم لان السعادة هي مثل أعلى لا للعقل بل للخيال» فلا يمكن انطلاقا من نتائج هي في الواقع لامتناهية أن نعطي تحديدا للسعادة .
موقف ( إميل شارتي) ألان :
يعتبر ألان أن الأمل في السعادة هو السعادة ،ألان أن الأمل في السعادة لا يعني أن ننتظر السعادة لتأتي الينا و صوبنا ،ولا يعني كذلك استحالة الحصول عليها او بلوغها ،و لا انها وهم ،بل يعني هدا أن " نعمل على تحصيلها الآن دلك أن « السعادة ليست شيئا نطارده بل هي شيء نتملكه ،و خارج هدا التملك فهي ليست سوى لفظ» إلا أن هدا التملك للسعادة مشروط بالرغبة في أن نكون سعداء ،لدلك يجب على المرء « أن يطلب سعادته و أن يصنعها » إن ألان يؤكد هنا وخاصة في كتابه "PROPOS SUR LE BONHEUR" ان السعادة لا تتوقف على العالم الخارجي او المحيط بالشخص و إنما يتوقف على الشخص ذاته أي أن فعل السعادة لا يتحقق إلا بالإرادة .دلك أن تحقيق السعادة لا يتأتى إلا بالصراع ضد المعيقات التي تحول دون ذلك و لا يجب الاعتراف بالهزيمة طالما لم نتجاوز هذه المعيقات .
المحورالثاني : البحث عن السعادة.
تـقــديــــم :
يطرح هذا المحور الثاني من درس السعادة،إشكالين اثنين رئيسيين وهما : بأي شكل تكون السعادة ممكنة ؟ أو بعبارة أخرى هل يمكن تحقيق السعادة ؟ وإذا كان الجواب بالاجاب ، فما السبيل إلى تحقيقها ؟ وعن هذين الإشكالين الرئيسيين تتفرع جملة من الإشكالات الفرعية : هل تحقيق لذاتنا كفيل بتحصيلنا السعادة ؟ وهل كل اللذات تحقق لنا السعادة ؟ ما علاقة السعادة بالزمن ؟ هل السعادة أمر دائم أم أمل عابر ؟ وما علاقتها بالفنون والذوق؟…
موقف سينكا :
يطرح سينكا في هذا النص إشكال ماهي الكيفية أو الوسيلة التي من خلالها يمكننا تحقيق الحياة السعيدة ؟ فإذا كانت السعادة هي مبتغى الناس أجمعين في هذه الحياة ، فما هي الكيفية التي بواسطتها نستطيع أن نحصلها؟ بيد أنه لاحظ أنه بمجرد ما يطرح هذا السؤال حتى تختلط علينا الأمور. وحتى يزول هذا الخلط على الإنسان- في نظر سينكا- أن يحدد هدفه بكل دقة، ثم بعد ذلك ينظر في كل الاتجاهات عن السبيل الكفيل بأن يقوده إلى تحقيق هدفه بأقصى سرعة، هذا الطريق أو السبيل الذي ينبغي أن يكون مستقيما حتى نتمكن من أن نعرف كل يوم كم تقدمنا وكم اقترفنا من هدفنا ، هذا الهدف الذي تدفعنا نحوه الرغبة اللازمة لطبيعتنا. و حتى نتمكن من اختيار الطريق المستقيم الذي وحده سيقودنا إلى تحقيق هدفنا علينا أن نستعين بإنسان خبير أو مرشد حكيم يكون سبق له وأن اختبر الهدف الذي نقصده . هذا ، ويحذرنا سينكا عند عزمنا السفر بحثا عن السعادة أن نسلك الطريق الأكثر استعمالا. إذ هو الأكثر تضليلا ،وما هذا السبيل الأكثر استعمالا إلا طريق أو سبيل العامة,بل بالضد من ذلك، علينا أن نبتعد عن طريق المحاكاة ،أي الاستقلال عن الطريق الذي تتبعه العام في تحصيل السعادة وإتباع طريق" العقل".
موقف أبيقور :
إن المتأمل في هذا النص بأجل نظر وأدقه، يتبدى له أن أبيقور يطرح فيه قضية السعادة في علاقتها بمبدأ اللذة .هذه القضية التي يمكن صوغها في اشكلين اثنين وهما: هل تحقيق لذاتنا كفيل بتحصيلنا السعادة ؟ وهل كل اللذات تحقق لنا السعادة ؟
يجيب أبيقور عن الإشكال الأول بالا جاب فيقول : " إن اللذة هي مبدأ الحياة السعيدة وغايتها ". بمعنى أخر أن تحقيقنا للذاتنا، وتجنبنا للألم- كما سيذكر في موضع آخر من النص-هو ما يجعلنا سعداء . وبهذا تكون السعادة عند أبيقور هي:" لذة تلحق النفس والجسد ". لكن، دون أن يعني هذا أن كل ا لذات تحقق لنا السعادة - من وجهة نظر أبيقور- . إذ من الذات ما يكون مفعولها عكسيا ، بمعنى أنه عوض أن تحقق لنا السعادة تتسبب لنا في الألم . والعكس صحيح ، فمن الآلام ما يكون وراء الصبر عليها تحصيل لذة أعظم. ومن هنا فلا ينبغي علينا أن نبحث عن كل اللذات وبالمقابل علينا ألا نتجنب كل ألآلام . هذا، ويشدد المذهب الأبيقوري على فضيلة القناعة ،أي أن نقنع بما نملك وان كان قليلا . إذ المتعة التي نجدها في تناول الطعام البسيط، ليست أقل من تلك التي نجدها في المآدب الفاخرة، بشرط أن يزول ألألم المتولد عن الحاجة . فقليل من خبز الشعير والماء يجعنا نشعر بلذة عظيمة إذا كانت الحاجة إليهما شديدة. والى جانب تشديده على فضيلة القناعة يؤكد أبيقور على العيش البسيط، دونما أن يعني ذلك التقشف. فالقناعة و العيشة البسيطة لهما أفضل ما يضمن لنا الصحة الجيدة ، وما ييسر لنا الاستجابة لمتطلبات الحياة الضرورية، كما أنهما يجعلننا عند وجودنا أمام ما لذ وطاب من الأكل، قادرين على التمتع بذلك حق التمتع. فتناول ما لذ وطاب من الأكل يوميا ينقص من لذة تمتعنا به. فضلا عن أن تشبثنا بفضيلة القناعة والعيشة البسيطة يجعلننا لا نخشى تقلبات الدهر .
موقف شوبنهاور:
يطرح شوبنهاور في هذا النص إشكالين وهما : ما هو الأصل في هذا العالم؟ أهو الألم و العذاب أم المتعة و الإشباع ؟ وهل السعادة أمر دائم أم أمل عابر ؟
يعتبر شوبنهاور أن حقيقة هذا العالم أو ماهيته هي الألم والعذاب و الحرمان ، أي أن الأصل في الحياة هو الألم والحرمان أم الإشباع و البهجة فهما ليسا سوى أمل عابر أمام الألم والعذاب والشقاء الدائمين. وشوبنهاور ينعت هذه السعادة غير الدائمة العابرة اللحظية بالسعادة" السالبة" ، لأنه سرعان ما يعقبها :"إما شرا مستجدا وإما فتورا وانتظارا" لسعادة لحظية عابرة أخرى .وإذا كان الأمر هكذا، فان هذا ما يفسر لنا عدم اكترتنا بما لدينا من ممتلكات وامتيازات ،لأن السعادة التي تمنحنا إياها ليست سوى إعفاءا لنا من بعض العذابات. ويدلل شوبنهاور على أطروحته بالفن وبخاصة الشعر، حيث نجد موضوع القصيدة الملحمية أو المأساوية لا يمكن أن يكون سوى شجارا أو جهدا أو معركة . وهذه المواضيع كلها تمثل الألم والشقاء الذي يتحمله الإنسان في سبيل تحقيقه سعادة سالبة، أي سعادة لحظية عابرة.
ومن كل ما سبق، نخلص إلى أن الأصل في الحياة بحسب شوبنهاور هو الألم والشقاء، وأن السعادة هي مجرد لحظات عابرة ، تتخلل بين الفينة و الأخرى هذا المسير من الألم والعذاب الذي يحكم حياتنا كلها.
موقف دافيد هيوم :
يعالج دافيد هيوم في هذا النص إشكال علاقة السعادة بالفنون والذوق .إذ يميز هو بين نوعين من الرهافة :" رهافة الإحساس" و"رهافة الذوق".
فالأفراد الذين لهم رهافة في الإحساس يكونون بالغي الحساسية تجاه عوارض الحياة وحوادثها، فأنت تجدهم فرحين بالحياة مقبلين عليها كلما كان هناك أي حدث طيب يمسهم . وبالضد من ذلك شديدي التألم عندما يمسهم ما يحزنهم. وعين الانفعالات التي يحس بها من لديه رهافة الإحساس عند مصادفته لحدث طيب أو لحدث مؤلم، يشعر بها من لديه "رهافة الذوق"، عند مصادفته كل جمال أو قبح أو تشوه . فلما نقدم له قصيدة شعرية أو لوحة فنية، فان رهافة ذوقه تجعل كل جوارحه ترتعش أمام ما يقدم له ، فيتذوق جمال الخطوط التي خطتها يد الرسام، ويتذوق الكلمات التي كتبها الشاعر. وبالمقابل نجده يشعر بالاشمئزاز أمام كل ما ليس بجميل، أمام كل فعل تم انجازه بدون دقة. وبالجملة، فحتى نحصل السعادة - بحسب هيوم – علينا" تهذيب ذوقنا" ليكون راقيا، حتى نتمكن من اختيار وفهم الفنون الأكثر نبلا التي ستشعرنا بالسعادة ، سواء كانت شعرا أو نثرا أو موسيقى أو رسما
المحور الثالث׃ السعادة و الواجب .
تـقــديــــم :
ﺇن الإنسان باعتباره كائن طبيعي- اجتماعي كان لزاما عليه الدخول ﺇلى القيم اﻷخلاقية،لكي يتحرر من دوافعه الغريزية وما يمكن ﺃن يترتب عنها من عنف تجاه الآخرين. فباﻹضافة ﺇلى ازدواجية الطبيعي والاجتماعي التي تشكل حقيقة اﻹنسان هناك ازدواجية ثانية تطبع وجوده اﻷخلاقي هي ازدواجية اﻹلزام و اﻹلتزام،ﺇلزامية أخلاقيه تفرضها قيم المجتمع ,والتزام أخلاقي يستمد مبادئه من وعي الإنسان.
من داخل جدلية اﻹلزام و اﻹلتزام يطمح اﻹنسان ﺇلى خلق توازن لبلوغ السعادة باعتبارها الغاية القصوى للفعل الإنساني المتجه نحو تجسيد قيم أخلاقية فردية وجماعية،وتحديد الواجبات التي على كل فرد القيام بها سواء نحو ذاته ﺃم تجاه الغير.وﺇذا كان اﻷمر كذلك فان السعادة تبنى داخل علاقات ﺇنسانيه يتشابك فيها واجب ﺇسعاد الذات بواجب ﺇسعاد الغير مما يحفزنا على طرح التساؤلات التالية׃
ما هي علاقة السعادة بالواجب ،هل هي علاقة تكامل ﺃو علاقة ﺇعاقة؟
بمعنى ﺁخر، هل يكمن ﺃساس السعادة في فعل ما نريد،ﺃم في الانصياع للواجب و القانون،طبيعيا كان ﺃو ﺃخلاقيا؟
وإذا كانت هناك علاقة بين السعادة والواجب فهل السعادة واجب نحو الذات ﺃم نحو الغير, ﺃم هما معا؟
وفي الختام كيف يمكن بلوغ السعادة في ظل تمفصلاتها مع مفاهيم الواجب والغير والإرادة؟
موقف ابكتيت :
ﻠﻺجابة عن هده التساؤلات يمكن الاستئناس بأحد المواقف الفكرية التي حاولت ربط السعادة بالواجب والإرادة والمتمثلة في الفيلسوف الرواقي "ابيكتيت" epectète" ( 125-50) الذي يعتبر من أهم أعلام الفلسفة الرواقية التي ظهرت في نفس الفترة التي ظهرت فيها الأبيقورية وكانت معارضة لها. تنطلق هذه المدرسة من فكرة أن في الطبيعة قانون و عقل و اﻹنسان جزء من هذه الطبيعة و ﻫﻨا العقل.وإذا استنتجنا من ﻫﻨﻩ الفكرة في نظرية المعرفة نتائجها الأخلاقية نجد ﻫﻨﻩ المدرسة تدعو اﻹنسان إلى أن يحيا وفق ﻫﻨﻩ الطيعة إذا أراد ﺇدراك السعادة و تجنب الشقاء، وﺇلا سيكون متمردا على
القانون الطبيعي.
ويتعرف الإنسان على قانون سيرته في ﻫﻨﻩ الحياة بالرجوع إلى ميوله الأساسية التي وضعتها الطبيعة فيه لتدله على ما يريد. والميل الأول ﻫﻮ حب البقاء الذي يهديه لتمييز ما يوافقه وما يضاده. و اﻷبيقورية في نظرهم على ضلال حين رأت أن الميل الأول طلب اللـﻨة، فما اللذة و الألم ﺇلا عرض ينشأ حين يحصل الإنسان على ما يوافق طبيعته أو بضادها لذلك تنقلب اللذة ألما وشرا ﺇن ظلت لذتها دون النظر ﺇلى مدى مطابقتها للقانون الطبيعي و اﻹرادة الكلية،ففي تلك المطابقة وحدها الحكمة والخير والفضيلة والسعادة.ولعل ابكتيت لايخرج عن تعاليم مدرسته،فهو يرى على غرارها أن الطريق الموصل ﺇلى السعادة هو الخضوع للقانون الطبيعي و اﻹردة الكلية التي هي مبدأ كل ما يحدث.ففي العالم أشياء تتوقف علينا وأشياء خارجة عن إرادتنا، فكلما تحركنا في دائرة الأفعال التي تخصنا توصلنا ﺇلى السعادة، في حين يؤدي التحرك خارج ﻫﻧﻩ الدائرة أو التطلع ﺇلى الأشياء الخارجة عن ﺇرادتنا أو التي توجد تحت سيطرة الغير ﺇلى اﻹاضطراب والشكوى ،وبالتالي ﺇلى التعاسة.
ﺇن مايجلب للناس التعاسة ليست اﻷشياء في ذاتها بل اﻵراء التي لديهم عنها، فالموت حسب ابيكتيت ليس شرا وألما في ذاته ولو كان كذلك لبدا لسقراط كذلك.بل إن الشر يكمن في الرأي الذي لدينا عن الموت بأنه شر وألم فذاك هو الشر أما الموت في ذاته،مطابق للقانون الطبيعي و اﻹرادة الكلية.فكل اﻷشياء العرضية كالموت وغيره ليس متعلقا بإرادتنا وليس خيرا أو شرا بالذات بل متعلقا باﻹرادة الكلية والقانون الطبيعي،فمن الحماقة أن نهلع لمرض أو نحزن لنكبة وما هذه اﻹانفعالات لمجدية لدفع هذه اﻷخطار بل من الواجب أن نعتصم بإرادتنا الفردية ونحتفظ بحريتنا لنرتفع بأنفسنا فوق كل شيء لانخاف،لانحزن بل نقبل كل مايصبنا من رزايا.فمن واجب اﻹنسان ﺇذا أرادا أن يحيا سعيدا وبإمكانه ذلك أن يعمل على مطابقة ﺇرادته الفردية مع اﻹرادة الكلية.
موقف كانط :
ﺇذا كانت الرواقية في شخص ابيكبيت قد رأت أن الطريق الموصل ﺇلى السعادة هو الخضوع للقانون الطبيعي، فان "ﺇيمانويل كانط"﴿1724-1804﴾يرى أن هذا القانون أخلاقيا وليس طبيعيا،عقليا وليس مستمدا من الميول الأساسية عند اﻹنسان.فالسعادة عنده لا يمكن أن تكون مستقلة عن القانون الأخلاقي وعن مبدأ الواجب،لأن ميدان الأخلاق والذي تعتبر السعادة غايته ليس ميدانا لتحليل العواطف الإنسانية كما ذهب إلى ذلك دفيد هيوم،وﺇلا لكانت المبادئ الأخلاقية مبادئ متنازع عليها.كما أنه لايمكن أن يكون مستمدا من الميول ا لأساسية التي وضعتها الطبيعة في الإنسان كما ذهب إلى ذلك ابيكتيت. معنى هذا أن للأخلاق أصول عامة شامله وصادقة في كل زمان ومكان .ولكن ما الذي يدفعنا لأن نخضع لهذه المبادئ اﻷخلاقية؟ يجب كانط: «مامن منفعة تدفعني إلى هذا إذ لو كان الأمر كذلك لما أمكن قيام أمر أخلاقي مطلق.». لأن مبدأ الأخلاقية مستقل تمام الاستقلال عن طبيعتنا الحسية فهو مستمد من الصورة الخالصة للعقل دون الاستعانة بالحساسية.كما أن اﻹنسان نظرا لتميزه بالعقل في غير حاجة ﺇلى الفلسفة أو العلم لفعل ما يجب عليه القيام به،ففي تجربة الصراع بين الضمير والأهواء ينبثق المبدأ العقلي للواجب الذي يلزم ﻹنسان بتطبيق القانون ﻹخلاقي حتى ولو تعارض مع ميولا ته ومنطلق هذا الواجب هو اﻹرادة الخيرة، ﺇﺫلا قيمة للفضائل بدون ﻫذاﻹرادة.
من هذا المنطلق صرح كانط أن السعادة باعتبارها كل مطلق مركب من مجموعة من الرغبات يصعب تحقيقه أو تعريفها،ﻹن جميع العناصر التي تؤلفها هي في جملتها مستعارة من التجربة مما يجعلها مفهوما للخيال وليس للعقل.في حين نجد اﻹنسان لكونه كائن متناه عاجز عن تحقيق تصور محدد لما يريد.لكن لو انتقلنا من تصور يشرط السعادة بتحقيق رغبة ما أو إقصائها إلى تصور يجعل منها غاية تبنى داخل مجال العلاقات اﻹنسانية ويجعله منها أيضا موجها لتصرفاته سواء نحو ذاته أم نحو الغير،لأمكن الأمل فيها متى كنا مؤهلين لها بقانون أخلاقي.الشيء الذي يحيلنا على طرح مجموعة من التساؤلات يمكن صياغتها على الشكل التالي:هل السعادة واجب نحو الذات أم نحو الغير،أم هما معا؟وكيف يمكن إسعاد ﺫاتي وﺇسعاد الغير؟وما علاقة السعادة بالرغبة و اﻹرادة؟
موقف راسل و ألان :
ﺇن اﻹجابة عن ﻫﺫا التساؤلات تقتضي منا التمييز بين موقفين،موقف يرى أن اﻹهتمام بالغير بمودة تلقائية للتعرف عليه وفهم خصوصيته وتفرده يشكلان مصدر ﺇسعاد الغير؛وبالتالي سعادة الذات؛وهو" لبرتراند راسل"وموقف آخر يرى أن السعادة ممكنة عندما تتوفر لدى اﻹنسان ﺇرادة طلبها،غير أنها لايمكن أن تتجه للغير دون اﻹلتزام بإسعاد الذات أولا،وهو"ألان" بالنسبة لراسل يدافع عن حق كل ﺇنسان في السعادة، دون أن يكون ذالك على حساب الآخرين، لكن من زاوية أن السعادة الحقيقية لا تكمن في أنواع الموضات والهوايات و التي تعد بمثابة هروب من الواقع بل تنبثق من فكرة التضحية بالذات التي يفرضها اﻹحساس بالواجب ، بوصفه أمرا أخلاقيا مطلقا وملزما كما ذهب ﺇلى ذالك كان كانط. لهذا تراه- مثلا- يقف على مظاهر الإحراج الذي يطرحه مشكل الواجب الأسري تجاه الأبناء من صرامة وعناية من جهة،ومن جهة أخرى الحرص على المعاملة الطيبة بغية إفساح المجال أمام المشاعر الإنسانية من عطف وحب وسعادة، ولعل هذا الموقف يتضامن مع نظرته للفلسفة التي جعل مهمتها تناول المنطق الخالص و الرموز والتركيبات ولا تعنى بالتشريع لما هو واقعي. ففي عالم الكيانات و العلاقات المنطقية المجردة تنزوي الفلسفة و العقل بعيدا عن تقلبات الشهوة و الانفعال. فراسل يطرد العقل من مجال الأخلاق وهذا ما جعله عندما يتحدث عن سعادة الغير يقول: "* ربما كان حب كثير من الناس تلقائيا وبدون مجهود، أعظم مصادر السعادة الشخصية"* معنى هذا أن الآخر يجب أن يكون محبوبا وليس مقبولا على مضض. في المقابل نجد ألان ''إميل شارتي'' يصرح بإمكانية السعادة إذا توفرت للإنسان إرادة طلبها،فمن السهل على المرء أن يكون مستاء، و من السهل عليه أيضا أن يرفض ما تقدمه الحياة من عطايا، لكن بالمقابل من السهل عليه أن يصنع من أشياء قليلة وبسيطة مظاهر السعادة التي يلتمسها في علاقته ب الآخر. بذلك يناشدنا آلان بعدم الاستسلام عند مواجهة الصعوبات وألا نعترف بالهزيمة قبل مواجهة ومقاومة نبذل فيها أقصى ما نملك من القوة. فالسعادة لا توجد هناك بل مرتبطة برغبتنا وإرادتنا. فمن الواجب علينا أن نصنعها ونناضل من أجلها ونعلم الآخرين فن الحياة السعيدة وذلك بعدم التحدث أمامهم عن تعاستنا. فالشقاء واليأس منتشران في الهواء الذي نستنشقه جميعا، هذا يعني أن السعادة واجبة نحو الذات لأن سعادتنا تعني مباشرة سعادة الغير و تعاستنا تعني تعاسة الغير
إن رفض السعادة حسب ألان هو السبب فيما تعرفه الإنسانية من مآس وحروب، فهذه الجثث و الخراب و التبذير، و التقوقع هي من أفعال أناس لم يعرفوا في حياتهم قط، كيف يكونوا سعداء، ولا يطيقون رؤية كل من حاول أن يكون سعيد. فنحن مدينون بالاعتراف و التتويج، لأولئك الذين تغلبوا على هذه السموم وعملوا على تنقية جو الحياة الاجتماعية. لتصبح السعادة في نهاية المطاف قيمة أخلاقية توجه تصرفات الإنسان في علاقته بذاته وبالآخر.
إذا كان كل من برتراند راسل و آلان قد تحدثا عن السعادة بوصفها غاية تبنى داخل مجالات العلاقات الإنسانية، فإن الفيلسوف المؤمن يؤمن بوجود سعادة أخروية تمثل لذة بلا عناء وكمالا بلا نقصان. ولعل الغزالي لم يحدثنا عن هذا التصور في كتابه" المنقذ من الضلال"حيث يحاول تكييف ثوابت العقيدة الإسلامية مع التجربة الصوفية المتحررة من ظاهر النص في مقاربته لمفهوم السعادة.
إن الشرط الأساسي لتحصيل السعادة عند الغزالي هو قطع علاقة القلب بالدنيا، و كف النفس عن الهوى، ومجاهدة الجسد لكبح رغباته، ثم المواظبة على العزلة و الخلوة والإعراض عن شواغل الحياة التي تشوش صفوة الخلوة وتقليد الأنبياء في المواظبة على العبادات، لأن السعادة تحصل بالقلب وليس بالعقل.
خاتــــــمـــــة :
يسمح النقاش الفلسفي حول مفهوم السعادة أولا بوضعه داخل المجال الأخلاقي القيمي بدلا من النظر إليه من زاوية شخصية فردية ،و ثانيا بادراك تعقيد و لبس هذا المفهوم حتى و إن كان الجميع متفق على أن السعادة هي الغاية القصوى الموجهة لكل سلوك أو فعل إنساني .كما يسمح هذا النقاش بادراك تمفصلات هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى كمفهوم الرغبة و الإرادة و الحرية ،و أخيرا وضع هذا المفهوم في اطار العلاقات الأساسية لتصبح السعادة قيمة أخلاقية يلتزم فيها الإنسان بواجب إسعاد ذاته وواجب إسعاد الغير
الحرية
لا تجد كالحرية كلمة دلت على معان مختلفة كما يقول مونتيكسيو، ويتجسد ذلك في الأبعاد الكثيرة للحرية
سنتناول الحرية في هذا الملخص من زاويتين أو بعدين فقط:
- البعد الميتافيزيقي للحرية؛
- البعد السياسي الملموس للحرية.
أما عن البعد الأخلاقي للحرية، فلتراجع درسالواجب وخصوصا المحور الأول (الواجب والإكراه)
أما عن البعد أو التناول العلمي للحرية، فأنظر المحور الثالث من درس الشخص ( الحتميات النفسية والاجتماعية الشارطة للشخص التي كشفت عنها العلوم الإنسانية)
- أما عن البعد التاريخي للحرية، فيرجى الرجوع إلى درس التاريخ وخصوصا المحور الثالث: دور الإنسان في التاريخ
المحور الأول: الحرية بين الإرادة والحتمية أو البعد الميتافيزيقي للحرية.
ملحوظة:يسمى هذا البعد ميتافيزيقيا لأنه يتناول الحرية بشكل مجرد من حيث المبدأ العام لا في وضعية محددة ومخصوصة، أي حرية ذات من حيث أنها تتمتع بالإرادة.
مفاهيم لابد من استيعاب دلالتها قبل المضي قدما:
الحتمية:
وجود علاقات ضرورية ثابتة في الطبيعة توجب ان تكون كل ظاهرة من ظواهرها مشروطة بما يتفدمها او يصحبها من الظواهر الأخرى، وأن كل حادث يسبقه سبب يحتم وجوده على نحو دون آخر؛ والحتمية بالمعنى الفلسفي مذهب يرى ان جميع حوادث العالم وبخاصة أفعال الإنسان، مرتبطة ببعضها ارتباطا محكما
الإرادة و حرية الاختيار:
حرية الاختيار :libre arbitre القدرة على الاختيار بين أحد المقدورين أو اتصاف الإرادة بالقدرة على الفعل دون التقيد بأسباب خارجية. وهذا يدل على وجود تلازم بين معاني الحرية واللاتعين واللاحتمية، وإذا سلمنا بحرية الاختيار، وجعلناها مقصورة على الأحوال التي تتساوى فيها الأسباب المتعارضة، حصلنا على معنى آخر للحرية وهو حرية اللامبالاة وقد عرفوها بقولهم: هي القدرة على الاختيار من غير مرجح
طرح الإشكال:
الحرية خاصية موجود خالص من القيود، عامل بإرادته أو طبيعته، وتقابلها مفاهيم القيد والحتمية والضرورة والخضوع والعبودية. والإنسان يستشعر في نفسه أحيانا القدرة على الاختيار والترجيح أو فعل الشيء أو الامتناع عنه بإرادته، لكنه يعلم من جهة أخرى أن لحوادث العالم الطبيعي نظاما عِليّا حتميا لا مكان فيه للصدفة أو العبث، أفلا تخضع حرية اختياره لعلل وأسباب تشرطها بدورها؟ هل الحرية هي الاستقلال عن المحددات والحتميات أم مجرد وعي بها؟ كيف يستقيم القول بحرية الإرادة مع القول بحتمية الحوادث؟
معالجة الإشكال:
1- الإرادة بوصفها علة أولى وابتداءا مطلقا
الحرية أولا هي حرية الإرادة بوصفها مصدر الفعل الحر. والإرادة أن يشعر الفاعل بالغرض الذي يريد بلوغه، وأن يتوقف عن النزوع إليه توقفا مؤقتا، وأن يتصور الأسباب الداعية إليه، و الأسباب الصادة عنه وأن يدرك قيمة هذه الأسباب، ويعتمد عليها في عزمه، وأن ينفذ الفعل في النهاية أو يكف عنه. وقدرته على الاختيار بين التنفيذ والكف هي جوهر الإرادة، أو ما يسمى بــ "حرية الاختيار" وهي القول أن فعل الإنسان متولد من إرادته. قال بوسييه Bossuet: "كلما بحثت في أعماق نفسي عن السبب الذي يدفعني إلى الفعل لم أجد فيها غير إرادتي"، بمعنى أن اختبار حرية الإرادة يتم في الغالب عن طريق استبطان داخلي للنفس اعتمد عليه ديكارت بدوره ليعلن أنه يجد في نفسه حرية الاختيار أو إرادة لا يماثلها شيء في لا محدوديتها بل هي الدليل على أن الإنسان على صورة الله ومثاله؛ ويعرف ديكارت الإرادة بأنها القدرة على فعل الشيء او الامتناع عنه، إثبات أو نفي ما يعرض للذهن من أفكار أو تصورات بمحض الاختيار دون الإحساس بضغط من الخارج يملي هذه أو تلك. وقد اختبر ديكارت لا محدودية حرية الإرادة في فعل الشك الذي أقدم عليه! ذلك أنه وجد في نفسه القدرة على رفض كل الحقائق والشك في كل المعارف التي تشبثت بنفسه منذ الطفولة... بل إن الخطأ أوضح صور حرية الإرادة: فنحن لا نخطئ إلا لكوننا أحرارا لأن الخطأ ناجم عما تتمتع به الإرادة من قدرة على الحكم بشيء لا تتوفر بصدده على الدلائل الكافية من العقل.
2- حرية الإرادة وهم ناتج عن جهل بسلسلة الحتميات
يقوم التصور الديكارتي على فرضية مفادها أن الإنسان مملكة داخل مملكة الطبيعة، مستقل عن سلطانها. وهو ما ترفضه كل فلسفات الحتمية التي تنطلق من وجود علاقة سببية ضرورية بين حوادث العالم بما في ذلك الحوادث النفسية (الرغبات، الأفكار، الاختيارات...) التي هي بدورها معلولات لأسباب خارجية، فحوادث العالم الخارجي عند ابن رشد مثلا تجري على نظام محدود ترتيب منضود لا تخرج عنه، والإرادة والأفعال لا تتم إلا بموافقة الأسباب الخارجية، لأن أفعالنا ناتجة عن تلك الأسباب الخارجية، وكل معلول إنما يكون عن أسباب محدودة ومقدرة، يكون بالضرورة محدودا ومقدرا بدوره. ومثال ذلك أن أنه إذا ورد علينا أمر مشتهى من خارج اشتهيناه بالضرورة من غير اختيار، مثلما أنه إن ورد أمر مكروه من خارج كرهناه وهربنا منه بالضرورة
ولكن من أين ينبع هذا الإحساس الداخلي القوي بالحرية رغم ذلك !؟
ينطلق اسبينوزا في جوابه على هذا السؤال من نفس ما انطلق منه ابن رشد، وهو أن كل شيء كيفما كان محدد بعلة خارجية تتحكم في وجوده وفعله باستثناء الجوهر أو الله الذي هو علة وجوده، فلا يتصرف إلا وفق الضرورة التي تمليها طبيعته، أما بقية الموجودات وخصوصا البشر، فإن الحرية التي يتفاخرون بامتلاكها لا تعدو أن تكون وهما ناتجا عن الجهل: أي عن وعيهم برغباتهم وجهلهم بالعلل التي تجعلهم يرغبون في شيء من الأشياء.
لا وجود إذن لفعل حر بمعنى فعل لاعلة له تحدده، والحرية الوحيدة الممكنة هي وعي هذه الضرورة، والتصرف وفق الطبيعة الجوهرية للإنسان أي الطبيعة العاقلة، لذلك قيل إن الحرية هي الحد الأقصى لاستقلال الإرادة العالمة بذاتها المدركة لغاياتها. وقيل أيضا إن الحرية هي علية النفس العاقلة. ومعنى ذلك أن الفاعل الحر هو الذي يقيد نفسه بعقله وإرادته، ويعرف كيف يستعمل ما لديه من طاقة وكيف يتنبأ بالنتائج وكيف يقرنها ببعضها البعض وكيف يحكم عليها ، فحريته ليست مجردة من كل قيد ولا هي غير متناهية، بل هي تابعة لشروط متغيرة توجب تحديدها وتخصيصها
فقرة انتقالية من المحور الأول إلى المحور الثاني:
لقد أخطأ الثراث الفلسفي عند مقاربته لإشكالية الحرية من خلال مفاهيم الإرادة والاختيار والحتمية حسب حنا آرندت : فبدل توضيح هذه الإشكالية، عمل على نقلها من حقلها الأصلي أي مجال التجربة الإنسانية و مجال السياسة إلى مجال داخلي يتمثل في الإرادة، وبذلك أذيبت الحرية ضمن بقية القضايا الميتافيزيقية كالزمان والعدم والنفس... والحال أنه من غير الممكن أن نختبر الحرية ونقيضها أثناء الاستبطان أي ذلك الحوار الذي يجري بيني وبين ذاتي والذي تتولد من خلاله القضايا الفلسفية والميتافيزيقية الكبرى
المحور الثاني: الحرية والقانون أو البعد السياسي للحرية
طرح الإشكال:
رأينا مع حنا آرندت في معرض نقدها للتناول الميتافيزيقي للحرية: إننا لا نعي الحرية في إطار علاقتنا بذواتنا، بل في خضم تفاعلنا مع الغير. إذا صح ذلك، ألن يكون وجود هذا الغير في حد ذاته حدا من حريتي بفعل القانون الذي ينظم علاقتي به؟ إذا كانت الحرية نقيضا للقيود والموانع، فكيف لها أن تتعايش مع القانون الذي هو مرادف لفكرة القيود؟
معالجة الإشكال:
1-القانون كشرط لوجود الحرية ( ما ينبغي أن يكون)
قد يحلم الواحد منا بحرية مطلقة دون حدود، يفعل بواسطتها ما يشاء دون قيد من مجتمع أو قانون، بيد أننا ننسى بأن وجودنا الطبيعي نفسه يقتضي الخضوع لقوانين ! مثل قوانين الفيزياء كالجاذبية وقوانين البيولوجيا كاندثار الخلايا؛ ثم إن هذا الحلم يتضمن تناقضا غالبا ما لا يعييه صاحبه: صحيح أن كل فرد يتمتع خارج القانون أو المجتمع المدني بحرية كاملة – كما يقول توماس هوبز - لكنها حرية غير مجدية، لأنها في الوقت الذي تمنحنا امتياز فعل كل ما نهواه، تمنح الآخرين بدورهم قوة إيذائنا كما يريدون.
إذن فلا وجود قطعا لحرية بدون قوانين. بل إن وجود قوانين يخضع لها الجميع هو الذي يضمن الحرية للفرد والشعب معا. سيكون للشعب الحر رؤساء، لا مفر من ذلك فهذا مما تقتضيه ضرورات التنظيم والعيش الجماعي المشترك ولكن لن يكون له أسياد، كما قال روسو، إنه يخضع للقوانين، وللقوانين وحدها، وبفضل قوة القانون لا يخضع للبشر. وحيث أن القانون تعبير عن الإرادة العامة، فإنني عندما أخضع للجميع، فأنا في الواقع لا أخضع لأي أحد، وإنما أخضع لكيان معنوي أنا نفسي جزء منه. وإذا كان الخضوع للقانون يحد من سلطاننا وقدراتنا، فقد كشف مونتيكسيو عن النزوع الدفين الذي يسكن كل ذي سلطة أو قدرة ألا وهو الميل إلى الشطط في استعمال قدرته وسلطته، وسيسترسل في ذلك إلى أن يلاقي حدودا. لابد إذن للحرية من حدود. والحرية كما قال مونتيكسيو هي حق فعل كل ما تبيحه القوانين، ولا يمكن للحرية أن تقوم في الدولة على غير القدرة على فعل ما يجب أن نريده وعلى عدم الإكراه على فعل ما لا يجب أن نريده.
2- القانون والدولة كإلغاء للحرية: نموذج الأنظمة الكليانية ( ما هو كائن)
لا وجود قطعا لحرية بدون قوانين. هذا المبدأ هو خلاصة المواقف السابقة التي التي اتخدت من الديمقراطية وحقوق الإنسان رهانا لها. ومن المفارقات أن الاستبداد والطغيان يستعمل بدوره مبدأ ضرورة القانون لوجود الحرية من أجل إلغاء هذه الأخيرة بحجة أن السلم أثمن من الحرية، وأن الغاية القصوى لوجود القانون نفسه هو حماية السلم من الحرية التي تهدده بفوضاها. وقد رد روسو ساخرا ذات مرة على من يدعي أن تقليص الحرية يهدف إلى الحفاظ على السلم والأمن: نعم، سنحصل على السلم والهدوء ولكنه هدوء المقابر !
يكمن سر هذه المفارقة في أن علاقة القانون بالحرية تقوم على نوع من المقايضة عبر عنها بنيامين كونسطان بقوله: "يقبل كل فرد التضحية بجزء من ثروته على شكل ضرائب لسد النفقات العمومية والتي يكون هدفها ضمان تمتعه بما تبقى من ثروته بسلام، و بنفس الشكل يقبل المرء التضحية بجزء من حريته لضمان ما تبقى منها، ولكن إن اكتسحت الدولة كل مجال لحريته فلتن يعود للتضحية معنى، كأنها تطالبه بدفع كل ثروته ! إن المذهب القائل بالامتثال اللامحدود للقانون في عهد الاستبداد والانقلابات الثورية قد أضر بالناس أكثر مما أضرت بهم الأخطاء والضلالات الأخرى"
و هذا المذهب الذي حذر منه كونسطان في بدايات القرن 19 تجسد في القرن العشرين في ظاهرة الأنظمة الشمولية الكليانية التي تصفها حنا آرندت بالظاهرة الفريدة غير المسبوقة في كتابها " أصول الكليانية": تعمد هذه الأنظمة الاستبدادية إلى اعتقال رعاياها وحبسهم داخل بيوتهم الضيقة، مانعة بذلك ميلاد حياة عمومية، لا يمكن للحرية أن تتجلى بدونها، مستعملة من أجل ذلك الدعاية والأيديولوجيا والتأطير المذهبي لتحول المواطن إلى مجرد رقم نكرة، إلى فرد داخل الجمع homme de masse
قد يقال أن الحرية تظل مع ذلك رغبة أو إرادة أو طموحا يسكن أفئدة الناس، بيد أن الحرية و قبل أن تكون صفة للفكر أو سمة من سمات الإرادة، فإنها أولا وقبل كل شيء وضع للإنسان الحر. لا يوجد في نظر آرندت سوى شكل وحيد للحرية وهي الحرية الملموسة في العالم: حرية التنقل و الخروج من المنزل والالتقاء بالغي.